|
#1
|
|||||||
|
|||||||
سهم الفراق
كان يعيش في إحدى مدن القصيم عائلة ميسورة الحال وكان لديهم فتاة تسمى فتاين فارعة الطول ممشوقة القوام ساحرة النظرات عذبة المحيا . عندما بلغتْ فتاين ستة عشر ربيعاً رآها في أحد الأفراح خالد جالسة تحتَ إحدى الأشجار في حديقة المنزل فشغف بها وهام بحسنها وجمالها . مضى عليه سبعة أعوام حتى أتى ذلك اليوم الذي فاتحته أمه برغبتها في أن يتزوج وقد وجدتْ له شريكة حياته . علت الفرحة محياه وقد ظن أن أمه تقصد فتاين ولكن يا للخبر الذي هز كيانه عندما أخبرته أنها ابنة جارهم رهف . صمتَ خالد على مضض وأخبر أمه برغبته بالاقتران بفتاين ولكن أمه رفضتْ ذلك رفضاً تاماًّ لا رجعة فيه وأخبرته بأن رهف خير له وستعقد قرانه عليها . حاول خالد ثني قرار أمه ولكن محاولاته باءتْ بالفشل الذريع وهكذا حال العشاق تحول دون نيل أوطارهم الأقدار فيا لله مما ألم به من الشجن والحزن بعد هذا . في أصيل ذلك اليوم أمرت الأم خالداً أن يتجهز للذهاب لجارهم ليرى رهف الرؤية الشرعية فأقسم بأغلظ الأيمان ألا يقترن بها مهما حدث ولن يتزوج إلا من مال قلبه إليها . حاولتْ به أمه وإخوته ولكنه خرج غاضباً وتركهم في حيرتهم ليتدبروا أمرهم ويخبروا أهل رهف بما حصل فليس لأهله الحق في فرض سيطرتهم عليه وقد استقل بذاته وشب عن الطوق . بعد هذه الحادثة عاف فراشه وبدأ يجول في البيد في الليل حتى أضناه السقم وصرعه الوهن فاضطر أهله بعد ما رأوا حاله أن يخطبوا له فتاين فتزوجها وزال ما به من الألم والهيام . عاش خالد مع فتاين في بيتهم الصغير وأجنحة السعادة ترفرف عليهما لم يعكر صفو حياتهما معكر ولم يكدرها مكدر حتى حدث ذلك الأمر العسير الذي قلب حياة خالد رأساً على عقب . في ظهيرة ذلك اليوم الكئيب أتى خالد من العمل متعباً فلم تستقبله فتاين كعادتها فاستراب من هذا وعندما ولج إلى داخل المنزل رآها مستلقية على الأريكة . أتى خالد وسألها عما بها فلم تجبه ولكن ترقرقتْ دمعة في محجر عينها ثم انسابتْ على خدها . امتلأ قلب خالد رعباً وهلعاً فأتى ومسح دمعتها ووضع يده على جبينها فوجده حاراًّ جداً فحملها بسرعة وذهب بها إلى الإسعاف وهناك أخذ يذرع الممر جيئة وذهاباً بانتظار ما سيحصل على شريكة حياته التي يذوب حباًّ بها . خرج الدكتور فأتى إليه خالد مسرعاً وقد تسارعت الأسئلة على لسانه : ما الذي ألم بها ؟ . لقد كانتْ في صباح هذا اليوم مليئة بالحيوية والنشاط ؟ . هل عادتْ إلى طبيعتها وهل يمكنها الذهاب معي إلى البيت ؟ . قال الدكتور ليقطع هذا السيل المفاجئ من الأسئلة : حالتها الآن مستقرة ولكنها ستمكث عندنا يومين ريثما تهدأ وتعود لطبيعتها . ذهب خالد يجر قدميه جراًّ إلى سيارته فركبها واتجه إلى البيت وقد اسودت الدنيا بوجهه ورمى بنفسه على الأريكة التي كانتْ قبل قليل فتاين مستلقية عليها وبدأت الأفكار تجول برأسه ولم يستطع الصبر فذهب إلى زيارتها في غير أوان الزيارة ففوجئ بالدكتور يقول له : لقد اتصلنا على هاتفك النقال ولكنك لم تجب على ندائه . تساءل خالد : وما الداعي لهذا . قال الدكتور : لقد ساءتْ حالة زوجتك وطلبتْ رؤيتك . أسرع خالد إلى الداخل فوجد الأطباء مجتمعين فأتى إلى فتاين ومرر يده على جبينها فوجده قد ازداد حرارة عن ذي قبل . قالتْ فتاين وصوتها قد بين مقدار الضعف الذي تعانيه : أي خالد لقد عشتُ معك ثلاث سنوات قضيناها مفعمة بالحب والوفاء فسامحني إن كان بدر مني تقصير بحقك . ندتْ من عين خالد دمعة وقال : والله إنك لأعز علي من روحي التي ترفرف بين جوانحي ولو كان بإمكاني لفديتك بمهجتي مما ألم بك من الوهن ولكنها إرادة الله وستشفين قريباً بإذن الله . قالتْ فتاين لقد أرسلتَ لي هذه الأبيات على الهاتف النقال فمن قائلها ؟ يا هل الحجا شفت الغرابيل من ظبيةٍ ماله حلايا من عينها كزت مراسيل فيها مخاليب المنايا ليتي أرى حسْن التعازيل وأرتاح من عقب البلايا قال خالد : أنا قائلها وذلك قبل اقتراني بك . تساءلتْ فتاين وقد رفعتْ عينيها الذابلتين من السقم : أتكن لي كل هذا الحب والشوق . قال : بل أكن لكِ أضعاف أضعافه ولكن هذا ما عجز ضميري عن احتماله . قالتْ فتاين : لقد كنتُ أعلم هذا قبل أن تخبرني به . قال خالد بدهشة : ومن أخبركِ بذلك ؟ . أجابته فتاين بقولها : في تلك الليلة الحالكة السواد شديدة الصقيع كنتُ مريضة وكنتَ تظنني نائمة فدثرتني ببعض الألحفة وجلستَ على حافة السرير من دون لحاف وكنتُ أراقب حركاتك على ضوء الإنارة الخافتة فرأيتُ الدموع تنساب على خديكَ وأنتَ تناجي نفسك بهمس مسموع وتقول : أواه مما دهاها أيتها الدنيا ألا تعلمين ماذا تعني لي إنها المطر الذي أحيا عروقي بعد الجفاف وبعث بروحي وقلبي السعادة التي عصفتْ بها تصاريف الأقدار . كنتَ تهذي بمثل هذه الكلمات وقلبي يتقطع حسرةً وأسىً على حالك ثم ضغطتْ على يده وقالتْ لا تنس وفاءنا وحبنا حتى بعد رحيلي ثم نطقت الشهادتين وابتسمتْ وفاضتْ روحها مع تلك الابتسامة الرقيقة . طبع خالد على جبينها الطاهر تلك القبلة الوداعية ثم انخرط في نوبة بكاء شديد . أحاط به مَنْ حوله مِنَ الأطباء وحاولوا تهدئته ولكن أنى له ذلك وهو يرى روحه التي أمدته بالسعادة طيلة ثلاث سنوات تفيض أمامه إلى بارئها وقد أعيته الحيل . رجع إلى بيته وقد زهد في بقية عمره وبدأ يتراءى له طيف زوجته الوفية في كل زاوية من زوايا المنزل فإن نظر يميناً رأى أطلالاً تذكره بمن بنتْ لها بقلبه قصر حب لا تنال منه الأيام وأشعلتْ بين حناياه ناراً لا تخبو جذوتها مع الأعوام وإن نظر شمالاً رأى آثاراً تدل على وفاء زوجته الراحلة فتلكَ صورة تراثية أهدتها إياه بعدما علمتْ بحبه للتراث القديم وبجانب تلكَ الأريكة أهداها خاتم الذهب وهناكَ وآه من هناك نعم هناكَ عند حوض السمك الصناعي بثته مشاعر قلبها تجاهه وأخبرته بما تكنه له من الود والتقدير . خرج إلى فناء المنزل فشاهد الحديقة التي أعدتها وزرعتها فتاين بأنواع الأشجار والزهور ليتناولا فيها القهوة ويتجاذبا أطراف الحديث كل ليلة . لقد كان فيما مضى يراها جنة من جنان الدنيا أما اليوم فرآها بأشجارها وأزهارها كجيش لجب أشرع سيوفه وتنكب أقواسه يريد الفتك به فزادتْ به الأشجان حتى عيل صبره وانفجرتْ بقلبه براكين الشوق وحمم الحنين إلى تلكَ الراحلة الوفية فهاض قلبه بهذه الكلمات : أيها البيت ما أحلكك وأضنكك أين من كانتْ تملأ بيتي سعادة وسروراً لقد كنتُ معها في هذا البيت الصغير وكأني في قصر أفيح أحاطت به الحدائق الغناء والرياض النضرة أما اليوم فلو أعطيتُ خزائن الأرض لما ساوتْ عندي شيئاً بعد رحيل من كنتُ أرى بقربها كل شيء حسناً . أيها البيت لا بل السجن لا لا لا بل القبر الذي وأد حياتي وخطف سعادتي تباًّ لك وسحقاً أما علمتَ أنها دنياي التي أعيش لأجلها وجنتي التي أستمد منها سعادتي فلم فجعتني بها وأنتَ تعلم مقدار حبي لها . لقد رحلتْ نعم نعم لقد رحلتْ إلى غير رجعة . لا لا مستحيل أن تكون رحلتْ بل ذهبتْ في زيارة قصيرة وستعود كما وعدتني . مازال يهذي بمثل هذه الكلمات حتى غلبته عيناه فنام مرغماً لا طائعاً . أتى أهله وإخوته بعدما علموا بالأمر لتعزيته ومواساته فرأوه طريحاً لا يعي من أمر الدنيا شيئاً فنضحوا عليه بعض الماء فأفاق ثم سأل : هل عادتْ فتاين . قال له أخوه الأكبر : لقد رحلتْ إلى غير رجعة . فقال خالد : لا لقد غابتْ كما يغيب فصل الربيع وستظهر بكامل زينتها وبهجتها كما تظهر الأرض بثوب قشيب بعد المطر . ثم رفع يداً ترتعش وقال : لقد تعاهدنا أن تكون هي من يُغْمضُ جفني ويَشُدُّ لحيي وقد ذهبتْ في زيارة قصيرة للعالم الآخر وستعود . ثم صرخ بأعلى صوته : أين أنتِ يا فتاين لقد عيل صبري وأزفتْ منيتي فاقدمي يا ملاكي لتوفي بعهدكِ لي ثم وقع مغشياًّ عليه . سكبوا عليه من جديد بعض الماء فأفاق ثم تساءل عن فتاين فأخبروه أنها في العالم الآخر ولن تأتي إليه مهما حدث . صرخ بأعلى صوته قائلاً : ها أنذا قادم إليكِ يا فتاين سأقطع تخوم الأرض وأختصر مسافات الزمن ولن يحول دون قدومي إليكِ شيء ثم سقط جثة هامدة لا حراكَ بها . نعم لقد رحل إلى محبوبته في العالم الآخر بعدما أرقه الشجن وأثبتَ وفاءه لها في حياتها وبعد مماتها فرحمه الله وأسكنه الجنة على ما كابده في هذه الدنيا من الوصب والنصب وجمعه بها في مستقر رحمته في دار لا ينغص عيشهم فيها منغص ولا يكدره مكدر من مرض أو فراق أو موت . جزيلُ الشكرِ ، ووافرُ الامتنانِ للمصممة المبدعة سُقْيَا . |
05-05-2018, 09:23 PM | #10 |
|
القدير الكاتب. عبدالعزيز
قصة. من نثر رذاذ الجمال على ثنايا الروح فألجم بألقه الجروح لاتؤاخذني إن قلت أنه احرنني فلقد دخل القلب دون سابق دمت متألقا ً يعانق يراعك السمو أعطر التحايا |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
خاطرة ((حلّ الفراق وخاطري منك ماطاب)) | عازف | صدى الحرف و صخب الأعماق | 10 | 11-08-2018 11:39 PM |
حل الفراق و إحتد | آلنور | صدى الحرف و صخب الأعماق | 23 | 05-15-2017 10:52 AM |