#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هارب من الجحيم
.يتسرّب الضوء من ثقوب صغيرة تكفي لأن ترسل خيوطاًمتدلّية منه، تعني بالنسبة لي شمس النهار عندما أرى تلك الشمس نقاطاًبيضاء واهنة على ذاك الجدار الداكن، أحسّ بها تقتحم ظلمة حياتي..تتطفل عليها، ولكنها تصنع بعض الدفء الذي آنس بوجوده، إنها ثقوب هرمةلا تكفي حتى لأن تنير ظلمة المكان، ولكنها على الأقل تضفي على الأشياءحولي بعض الظلال فتبدو بعض معالمها الخارجية.
كان هذا حديث نفسي في تلك الزنزانة المظلمة، لا.. لا أظن أنها زنزانة.. يبدو أنه جحر تحت الأرض، ولكن الفرق أن منيعيش فيه إنسان!! في بعض الأحيان آنس بالهدوء، ولكنه الآن يمتد ليصبح صمتاً قاتلاً لايداخله سوى صوت الفتحة السفليّة للباب، وهي تفتح لأسمع صوت الصحن يزحفمن تحتها، ثم يقفل الجندي الفتحة بإحكام شديد، أحاول بعد ذلك أن أتلمسالأرض لأبحث عن صحن لا يتجاوز حجم كفيّ.. لا أدري على ماذا يحتوي، ولاأستطيع أن أراه.. ولكنني أدرك أنه مجرد علبة معدنية صدئة أنهكتها رياحالشتاء الباردة لتتآكل وتتفتت، ولكن أصحابنا أبوا إلا أن يستفيدوا منمعدنها المتآكل، ويطعموني إياه مع ذاك الطعام المزري، دائماً ما أحاولجاهداً أن أتحمّل طعم الصدأ الذي يمتزج بالطعام.. ولكنني لم أفلح حتىالآن! لم أكن أتوقع يوماً أنني سأصبح هنا، كنت أسمع عن سجن كبير يحوي الكثيرمن السجناء والنظرات المتسائلة كتساؤلي الآن: لماذا أنا هنا؟! لكنهالم ولن تجد الإجابة؛ فتحاول أن ترسمها على جدران السجن لتنطق: إنهارغبة أولئك العلوج ويجب أن تُنفّذ!.. لا بل إنه يكتنز الكثير منالعتمة، لم أكن أعلم أن هناك مكاناً يحوي تلك المساحات الشاسعة منالظلام! ولكني الآن أجربها وأحياها ليصبح الظلام الوضع الطبيعي لي أماالشمس والضياء ولون السماء فهذا أغرب شيء من الممكن أن أراههنا! أعود إلى ذلك السجن الكبير، إنه أكبر من أن أتكلم عنه، إنه أظلم من أنترسمه حروفي وكلماتي إنه أتعس من أصفه! قيل لي قبل أن أدخله إنه يسمىسجن "غوانتانامو"، لم أكن أعي ما يقولون جيداً، ولم أحاول أن أتخيلهقبل أن أراه. عندما أمسكوا بي في زمرة من أمسكوا بهم في ذاك المسجد، كنت قد التزمتمنذ فترة ليست ببعيدة، ولم يمض على تديني سوى بضعة أشهر، قبل التزاميلم أكن أتذوق حلاوة العسل الذي ينساب في صوت المؤذن كل صباح، كنتأجدني أتثاءب على صدى أغنيات إلى الآن لم أعِ عمّ تتحدث! فأنام حتىالغروب أو قبله بقليل لأنقر صلواتي التي أجمعها في آخر النهار وأصليهادون أن أشم رائحة الياسمين تفوح منها، بل وأعمي عيني عن النور الذيينبعث في جوانبها. كانت أحلى متعة لي أن أقوم الليل على أصوات الغناء، أن أتسامر معالرفاق، أجوب البر بسيارتي "أفحّط" هنا وهناك حتى إن الجميع يسمع صوتاحتراق العجلات إثر سرعتي الجنونية! أما الآن فجلّ متعتي أن تتورّم رجلاي وأنا أقوم الليل أصلي في مصلاي،أبكي ذنوبي "أرجو الله وأتضرّع" أفرغ من خزانة نفسي أوراق تلك المعاصيالمشؤومة أحرقها وأرميها في مهب الريح لينقشع دخانها عن سمائي، فلاأحبها إلا تلك السماء الصافية صفاء القلوب المعمرة بذكر الله. وإن سألني رفاقي: لم تفعل هذا؟ أجيب: هارباً من الجحيم! لم يمض علىذلك كله سوى بضعة أشهر ليعمّلوني (لأصبح عميلاً لهم) ويدجّنوني في هذهالعتمة المجنونة، والغريب أنهم يسألونني السؤال نفسه: لِمَ تفعل هذا؟فلا أجد سواه جواباً: هارباً من الجحيم! كان الضابط يتعجب، أرىالنيران تتأجج في عينيه، أظن أن كلماتي كانت تغيظه فكان يقول لي: أنتتهرب من جحيم إلى جحيم أشد منه -يقصد به هذا السجن- لكن غرابته تزدادعندما أرد: بل من جحيم إلى الجنة بإذن الله. عندها يأمر أصحابه بأنيذيقوني أشدّ ألوان التعذيب! مازلت أذكر إحساس التجمد والإنصهار المتناوب.. عندما كانوا يصبّونعليّ ماءً يغلي، وفجأة يصبّون ماء مثلجاً، فأجدني أذوب وأتجمّد أذوبوأتجمّد أذو... إلى أن يملّوا مني فيعيدوني إلى الزنزانة.. ولم لاأتحدث عن صعقات الكهرباء التي أحس عندها أن روحي تفارق جسدي حتى أظنهالن تعود! كان هذا قبل أن يرموني في هذه الزنزانة بعد أن يئسوا مني ومن صنوفالتعذيب التي ابتكروها لي! وها أنا ذا وحيد في هذه العتمة المجنونة أسابق الزمن.. أحس بالساعاتتجري وبالدقائق تلوذ بالفرار! لا أصدق أنني سأخرج بعد ساعة من هذاالظلام.. بل لا أصدق أنني سأفارقه فقد احتل كياني وتسلسل إلى زواياروحي حتى ظننت أنني سألازمه حتى أموت! أحياناً أتساءل: كم من الشباب والشيوخ سكنوا هذا الجحر وسكنتهم العتمةحتى طغت على ثقوب الضوء البلهاء التي تصطف على شكل مربع صغير في هذاالجدار الذي لم أر شكله حتى الآن، على الرغم من أنه يقف أمامي منذسبعة أشهر قبل أن أدخلها، كنت أحدث نفسي بأنني سأكسر كل هذا الصمت،وسأبدّد عتمة هذا الحجر بنور الإيمان في قلبي، ولكني الآن أراه يخفتشيئاً فشيئاً حتى يمتزج نوره بالعتمة، ولا أدري أيهما سيغطي علىالآخر! كنت أتحدى الجميع وأقول: ليس هناك من يستطيع أن يبدّد نوري ويغيّبشمسي ويخطف قمري.. وحتى لو دخلت تلك الزنزانة.. ومهما كانت مظلمة فأناأقوى! سأحيل ظلامها إلى نور وليلها إلى نهار.. وحزنها إلى فرح..ويأسها إلى أمل.. بل سألوّن جدرانها الكئيبة بألوان الطيف كنت أبلهَلم أحسب أن كل هذا سينهار سيتساقط بمجرد المبيت فيها لأسبوع واحدفقط!! لا بل كنت أحس بكلماتي تذبل.. تتهاوى وتجف عندما أنتهي منها فأرى جميعالنظرات حولي باردة برودة ليلي الكئيب غير مكترثة بما أقول! وفجأة يفتح باب الزنزانة.. وأحس بيد ضخمة تهوي على كتفي بقوة تقودنيإلى مكان ما، ثم تمتد يد أخرى إليّ تقيدني وتعصب عيني، الأيدي هناغريبة إخالها نسجت من ريح كانون! أصل أخيراً إلى شاحنة وعيناي لم ترياالنور بعد! ولكنني أيقنت أني سأرى الشمس والسماء التي لا أظن أننيأتذكر لونها حتى الآن! ولا أعتقد أنها ما زالت صافية كما عهدتها منقبل! في الشاحنة الأوقات بطيئة أبطأ من صوت محركها المتهالك، والظلاملا يزال يلاحقني، والنور لا زال يفر مني. تتوقف الشاحنة أخيراً، يُفتح الباب، وتمسك بي ذات اليد الضخمةالباردة، ترميني خارجاً بعنف وتنهال عليّ بالضرب حتى أغيب تماماً عنالوعي. بهدوء أفيق، أفتح عيناي رويداً رويداً، تتسلل خيوط الضوء إليهما فيالزنزانة كنت أحدّق في الظلام، أبحث عن لا شيء! أما الآن فأنا أحدّقفي النور أبحث عن كل شيء.. ها هي الأشياء التي خانتني ذاكرتي فلمأتذكّر شكلها، ها هي الشمس مكتملة تماماً، ولكنها تتوارى خلف السحبوتغيب، ها هي السماء بصفاء زرقتها تشوبها ألوان فرحية، إخالها تشبهألوان أحلامي! أمشي وأنا أحدّق في الأشياء إلى اللامكان! ولكن الظلاميداهمني مرة أخرى، ولا أدري لم استعذبت عتمته! أخيراً وصلت إلى قرية ألملم شتات نفسي أرمي بجسدي المنهك أفترش الأرضوألتحف السماء وأنام.. أستيقظ على أصوات ليست غريبة.. أحدق فإذا أحدهميسألني: من أنت؟! فلا أجد سواه جواباً: هارب من الجحيم! |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | تقييم هذا الموضوع |
|
|