ماذا لو أن أحدنا عمد إلى إعداد فنجان قهوته بنفسه، وقرر أن يبدأ من شجرة البن، على طريقة الشعر الجاهلي في وصف القوس. حتما سيحتاج السفر إلى إحدى دولتين، اليمن أو البرازيل، من أجل الظفر بالبن من معدنه، وفي هذه الحالة سيتعذر ذهابه إلى اليمن بسبب الحوثيين، ولن يفكر، بالطبع في أي دولة أخرى، ليبقى له البن البرازيلي خياراً وحيداً. قد يلتقي هناك بعض لاعبي البرازيل القدامى، كريفلينو وسرجينيو وسقراط، وفي ريدو جانيرو سيستمتع، في الطريق، بمواهب الشعب البرازيلي في الفن الرياضي والرقص الشعبي، وبعد أن يعود بغصن البن الأخضر إلى البلاد قد يجد صعوبة في تجاوز موظفي الجمارك الذين سيتحسسون رائحة البن الطازجة بشيء من الريبة والحذر، الأمر الذي سيجعل غصن البن ذا قيمة عالية، وأكثر حرصاً على الظفر به، وسيكون اجتياز الدخول إلى البلاد أكثر متعة من البن نفسه، بل ستصبح طريقة التحضير نفسها عملًا إبداعياً خلاقاً، أثناء التقشير والحمس والطحن، حتى إذا فرغ من ذلك وبدأ لون البن المطحون يطفو فوق الماء الساخن فاحت رائحة القهوة، وما هي إلا لحظات وإذا فنجان القهوة ينتظر لحظة التجلي حين يختصر في رشفة مكثّفة تختزن تاريخ الفنجان من شجرة البن إلى الرشفة الأولى .
ليس ما سبق حديث عن قهوة البن، أو عن رشفة من رشفاته، إنه، في الحقيقة، حكاية رمزية معادلة لكل الأشياء التي نصنعها بأنفسنا، نتابع فيها تفاصيل التفاصيل، ونتعب في كل جزء منها كي نستمتع بلحظة الاكتمال، ولهذا تجد هذه الحكاية في صور الشعر الجاهلي حين يقص الشاعر تاريخ قوسه التي يصيد بها، وتجد هذه الحكاية بالملامح نفسها في الشعر العامي الضارب في أعماق الصحراء في قصيدة تتابع تفاصيل إعداد القهوة، كابن عون مثالاً، وتمتد هذه الحكاية في رمزيتها لتشمل كل الإنجازات التي يستمتع بها أصحابها لأنهم لم يكتفوا من الإنجاز بلحظة التدشين فحسب، وإنما كانوا خلية من خلاياه الأولى ثم امتدوا في عروقه حتى تشجر وأثمر وحانت لحظة القطف والرشف، وفرق بين فنجان قهوة تعده بنفسك وفنجان آخر يمده إليك الساقي من خلف أذنك اليمنى.
وبناء على ذلك فقد أخذت على نفسي أن أتحسس الأشياء جميعها بهذه الطريقة التي تبدأ من العروق، ليس فنجان القهوة فحسب، وهذا كفيل بأن يجعل لكل شيء من حولي مذاقاً خاصاً، دون أن أكتفي بالعبور السريع على الأكشاك النابتة على ضفاف الطريق بدءاً ببارنيز وانتهاء بالمذاق المغربي، ففي ظني أننا لم نفقد مذاق الحياة الحقيقي إلا بعد أن فقدنا مذاقاتنا الخاصة بنا، وفقدنا ذلك الفنجان الذي يصل إلينا عبر رحلة شاقة يتخطى فيها الحواجز من عروق الشجر إلى عروق البشر!!