#1
|
||||||||
|
||||||||
الحياة البرزخية
الحياة البرزخية
دلَّت الآيات والأحاديث على أن نفسَ الميت تخرجُ من بدنه وتفارقُه، فبخروجِها منه وإمساك الله لها يموت صاحبُها، فهي تبلغ التراقيَ عند الموت، ثم تفيضُ فلا يَقدِرُ مخلوق على إرجاعها؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴾ [القيامة: 26]، وقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ [الواقعة: 86]، وقال سبحانه: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]. وهذا بيانٌ لكون النفس تُقبضُ وقت النوم، ثم منها: ما يمسك فلا يُرسَلُ إلى بدنه؛ وهو الذي قضى عليه الموت، ومنها: ما يُرسَلُ إلى أجل مسمًّى؛ فالتي تُمسَك ويُقضَى على صاحبها بالموت تُفارِقُه مفارقةً تنقطع بها حياةُ الجسد، وتزولُ فتزول حركتُه وإدراكه، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند النوم: ((باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعُه، إن أمسكتَ نفسي فاغفِرْ لها وارحمها، وإن أرسلتَها فاحفَظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين))، ثم بعدما تفيضُ الروح يُصعَد بها إلى السماء، ثم تُعاد إلى جسد صاحبِها للسؤال، فيسأل في قبره، ويُقالُ له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ فيثبِّتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمنُ: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيِّي. ويُقال له: ما تقولُ في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول المؤمن: هو عبدُ الله ورسولُه، جاءنا بالبينات والهدى؛ فآمنَّا به واتَّبعناه. أما المنافق: فإنه يقول عند السؤال: هاه! هاه! لا أدري، سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلتُه، فيُضرَبُ بمِرْزبة من حديد؛ فيصيحُ صيحةً يسمعها كلُّ شيء إلا الجن والإنس. وعودُ الرُّوح إلى الجسد بعد الموت ليس مثلَ عودِها إليه في الحياة الدنيا، وليس مثلَ عَوْدها إليه بعد البعث؛ فلكلِّ دارٍ عَوْدٌ خاصٌّ بها، وعَوْدُها إلى الجسد في البرزخ يُحَسُّ معه بالنعيم أو العذاب؛ ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن الميِّت يُوسَّع له في قبره، ويُسأَلُ ونحو ذلك، وإن كان الترابُ لا يتغير، والروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتفارقه متى شاء الله تعالى - فلا يتوقف ذلك بمرة ولا مرتين. والنوم أخو الموت؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا استيقظ: ((الحمدُ لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور)). وإن كان النائمُ ليس كالميت في الحساسية؛ إذ إن الميت يحسُّ بالنعيم أو العذاب بصفة أكملَ وأبلغ من إحساس النائم؛ لأن نعيمَ الميت أو عذابه حقيقيَّان؛ ولكن يُذكر النوم كمثلٍ يقرِّب إلى الأذهان ما يلقاه الميت، فإذا كان النائمُ يحصل له في منامه أحيانًا لذةٌ أو ألم بحسب ما يحلم به، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه كما - يعرفه الجميع - فكذلك الميت يحصل له من النعيم أو العذاب ما الله به عليم. والأرواح مخلوقة بلا شكٍّ، وقد دلَّت أحاديثُ نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة على بقائها؛ فمنها المُنعَّم، ومنها المُعذَّب، أما حقيقة الروح فلا يعلمها إلا الله سبحانه. والنعيم أو العذاب يقعُ على الروح إذا فارقَتِ البدن، ويقع عليها وعلى البدن مجتمعين إذا عادت إليه؛ فهي دائمًا في نعيم أو عذاب مفردة عن البدن، أو متصلة به، والبدن تابعٌ لها في ذلك، حتى يبعث الله الخلائق فتعود إلى الجسد عودًا كاملًا ليس معه مفارقة. وعذاب القبر هو عذابُ البرزخ؛ فكل مَن مات وهو مستحِقٌّ للعذاب ينالُه نصيبه منه قُبِر أو لم يُقبَرْ، أكلَتْه السباع، أو أُحرِق بالنار، وذُرِّي رمادًا، أو صلب أو أغرق في البحر - كلُّ هذه الحالات وغيرها يصلُ فيها إلى الميت ما يستحقُّه من نعيم أو عذاب، كما يصل إلى المقبور تمامًا، ويقع النعيمُ أو العذاب على الروح والبدن كذلك، وما ورَد من إجلاس الميت واختلاف أضلاعه، ونحو ذلك يجبُ أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غُلُوٍّ ولا تقصير. مستقر الأرواح في البرزخ: للعلماء في مستقر الأرواح في البرزخ أقوالٌ يتلخَّص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتةٌ أعظم تفاوت؛ فمنها أرواح في أعلى عليِّين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم فأعلاهم منزلةً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: أرواح في حواصل طيرٍ خُضْر تسرحُ في الجنة، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم؛ إذ إن من الشهداء من تُحبَس روحه عن دخول الجنة لدَيْن عليه؛ كما في المسند عن عبدالله بن محسن أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلْتُ في سبيل الله؟ قال: ((الجنة)) فلما ولَّى قال: ((إلا الدَّين، سارَّني به جبريل آنفًا)). ومنها: أرواحٌ محبوسة على باب الجنة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت صاحبَكم محبوسًا على باب الجنة)). ومنها: أرواح محبوسة في قبور أصحابها. ومنها: أرواح في الأرض. ومنها: أرواح في تنُّور الزُّناة والزواني. ومنها: أرواح في نهر الدم تسبَحُ فيه، وتلقم الحجارة. كل ذلك تشهَدُ له السنة، والله أعلم. والحاصل: أن الدورَ ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكامًا تخصُّها، وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعًا لها، وجعل أحكامَ البرزخ على الأرواح والأبدان تبعًا لها؛ فإذا جاء يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكمُ والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعًا. وكون القبرِ روضةً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابقٌ للعقل وحقٌّ لا مِريةَ فيه، وبذلك يتميَّزُ المؤمنون بالغيب عن غيرهم. ويجب أن يُعلَمَ أن النار التي في القبر والنعيم ليسا من جنس نار الدنيا ولا نعيمها؛ وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقَه وتحته؛ حتى تكونَ أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسُّوا بها؛ بل أعجب من هذا: أن الرَّجلين يُدفَنُ أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصلُ إلى جاره شيء من نعيمه، ولا إلى هذا شيء من نار جارِه، وقدرةُ الله أوسعُ من ذلك وأعجب؛ ولولا هذه المغيَّبات العظيمة التي كُلِّف الناس بالإيمان بها من غير إحساس بها، لزالت حكمةُ التكليف. |
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
البرزخية, الحياة |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
هموم الحياة ..!!! | المنهل | شاشة عرض ونغم / ذوائق اليوتيوب | 5 | 02-19-2019 11:56 PM |
شركة الحياة | .عبدالعزيز. | وتــــر مشدود / المواضيع النقاشية | 32 | 11-28-2017 12:12 AM |