المقدمـة:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على من بعث بالحنفية السمحة، محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- خير نبيٍّ على الإطلاق، وأمته أفضل الأمم تبعاً لأفضليته، ولذلك فقد كان أول من يدخل الجنة، ثم بقية الأنبياء، ثم أمة محمد، وهم أكثر الناس دخولاً، بل إن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، ومع كل واحد من هؤلاء السبعين سبعون ألفاً؛ كما جاء في بعض الروايات، فما هي أوصاف وأعمال هؤلاء السبعين ألفاً الذين استحقوا هذه الدرجة وهذا الوسام الخالد -نسأل الله أن يجعلنا منهم-؟ هذا ما سيكون حوله حديثنا في هذا الشرح المختصر لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-. نص الحديث:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يوماً فقال: "عُرضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبيُّ ومعه الرجلان، والنبيُّ ومعه الرهط، والنبيُّ ليس معه أحد، فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً قُدَّامهم يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون". فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم؟ قال: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "سبقك بها عكاشة"1. غريب الحديث:
"الأمم" جمع أمة، وهم القوم أو الجماعة مع نبيهم.
"الرهط" هم ما فوق الثلاثة وما دون العشرة.
"سواداً" السواد ضد البياض، والمراد به هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
"الأفق"... جهة شروق الشمس وغروبها، ولهذا يقال الأفق الشرقي والأفق الغربي.
"ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون، من الطير ونحوه، ولكنه غير محصور بالطير، وإنما يشمل التشاؤم بأي مرئي أو مسموع، أو زمان أو مكان؛ كما كان في الجاهلية.
"ولا يسترقون" الاسترقاء أو الرقية هي: طلب الرقية من الغير، أي لا يسألون من غيرهم أن يرقيهم.
"ولا يكتوون" أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم. والكي يكون بحديدة محماة.
"يتوكلون" التوكل: هو الاعتماد على الله في حصول المطلوب، أو دفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها 2.
"عُكَّاشة" بضم العين وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها. وهو عكَّاشة بن محصن بن حرثان الأسدي من بني أسد بن خزيمة.. المعنى الإجمالي:
يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه عُرضت عليه الأمم مع أنبيائها، فكان يمر عليه النبي ومعه ممن آمن به رجل واحد! والنبي الآخر ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد! ثم عرض عليه قوم كثيرون قد سدوا الأفق لكثرتهم، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن ظن أنهم أمته، وذلك لرحمته بهم، فأخبره جبريل أنه موسى -عليه السلام- وقومه، ثم قيل له: انظر، فنظر يميناً وشمالاً؛ فإذا بسواد أكثر من ذي قبل قد سد الأفق، فقيل له: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً قدامهم؛ يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، فتاقت وتشوقت نفوس الصحابة؛ كعادتهم عند سماعهم الحديث عن الجنة وما فيها من النعيم، إلى أن يكونوا منهم، وبغية معرفة منهم؟ وما هي أوصافهم؟ وما هي علاماتهم؟ فباتوا ليلة كاملة يخوضون فيهم، ويتحدثون عن شأنهم، فكان بعضهم يقول: هم الذين ولدوا على الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وقيل غير ذلك، فخرج عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم التالي فأخبرهم عنهم، وذكر أوصافهم، فقال: "هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" وبعض هذه الخصال تدل على كمال إيمانهم، وعلو منزلتهم، وتحقيقهم للتوحيد، وقد سبق بيان معنى هذه الجمل. فقام رجل من الصحابة يقال له: عكاشة بن محصن وطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو له بأن يكون من أولئك السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، فدعا له، بل إنه أخبره كما في بعض الروايات بأنه منهم، فقام رجل آخر فطلب ما طلبه عكاشة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبقك بها عكاشة". بعض فوائد الحديث:
في حديث السبعين ألفاً هذا فوائد عديدة، وعبر وعظات جمة، منها ما يلي: 1- أن الله قد يطلع أنبياءه ورسله على بعض الأمور الغيبية، فقد عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمم مع أنبيائها، كما قال الله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}الجن (26-27). 2- جبر قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسليته بما قد يحصل له من تحسر وأذى، وذلك نتيجة إعراض الناس عنه وعن دعوته، وعدم استجابتهم له، قال -تعالى-: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} النحل(37).. وقال -تعالى-: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف(103). وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فاطر(8). ولذلك فقد أراه الله أنبياء ليس معهم إلا رجل ورجلان، ومنهم من ليس معه أحد!. 3- بيان فضيلة رسول الله وشرفه، حيث كان أكثر الأنبياء وأفضلهم أتباعاً. 4- أن كلّ أمةٍ تحشر لوحدها مع نبيها، قال -تعالى-: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الجاثية(28). 5- أن على الداعية إلى الله أن لا يغتر بكثرة أتباعه، وأن لا يحزن لقلتهم، ولكنه مع ذلك عليه أن لا يزهد في القلة، بل عليه العمل والسعي لتكثيرهم كماً وكيفاً. 6- اتبع الحق وتمسك به وإن كنت لوحدك، فبعض الأنبياء يأتي يوم القيامة وليس معه إلا رجل واحد أو رجلان، وبعضهم ليس معه أحد. 7- فضيلة التوكل على الله، وصدق الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه. 8- حرص الصحابة على الجنة وتسابقهم لنيلها، وعملهم على أن يكونوا من أهلها، فقد باتوا ليلة كاملة يخوضون في الحديث عن أولئك السبعين ألفاً الذين يدخلونها بغير حساب ولا عقاب. 9- أن الجنة لا بد لها من عمل، فقد نال هؤلاء الجنة بفضل الله ورحمته ثم بعملهم لما يقربهم منها، وبعدهم عما يبعدهم عنها. 10- استجابة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد طلب منه عكاشة أن يدعو الله أن يجعله من أهل الجنة، بل من الذين يدخلونها بغير حساب ولا عقاب، فاستجاب الله دعوته فكان عكاشة من أهل الجنة. 11- في الحديث منقبة لعكاشة بن محصن فقد بشره رسول الله بالجنة، وقد بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً من الصحابة بالجنة، وفاض واشتهر أن منهم العشرة المبشرين بالجنة، منهم الخلفاء الأربعة، وغيرهم. 12-عظم خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفضل تعامله، وحلو منطقه، وذلك أنه لم يقل لمن سأله الجنة بعد عكاشة: أنت لست مؤهلاً لدخول الجنة، أو لن تكون ممن يدخلها بغير حساب ولا عذاب، أو ما أشبه، وإنما راعى خاطره، وجبر قلبه فقال له: "سبقك بها عكاشة" مع علمه -صلى الله عليه وسلم- بأن حاله لا تؤهله لأن يكون من أولئك السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
............................................ 1 - رواه البخاري ومسلم.
2 - انظر تعريف التوكل في القول المفيد لابن عثيمين (2/228). دار العاصمة، ودار ابن الجوزي.