فإن حقوق القرآن على المسلمين كثيرة ومتنوعة, وسيكون الحديث عن أهم هذه الحقوق, ومن ذلك:
الحق الأول: حفظُه في الصُّدور:
امتدح الله -تعالى- حُفَّاظ كتابِه ووصفهم بأنهم من أهل العلم؛ لأنهم يحملون القرآن في صدورهم فقال -عزّ وجل-: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت: 49].
وإِنَّ مَنْ لم يحفظْ القرآن العظيم كاملاً، فَلْيحفظْ ما تيسَّر منه، فقد وَجَّهَنا النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى حفظ آياتٍ مُعَيَّنة، كقوله: “مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجال“(رواه مسلم).
ثم إن على مَنْ حَفِظَ القرآنَ كلَّه أو شيئاً منه أن يتعهدَّه بالقراءة والتِّلاوة حتى لا ينساه، فقد أرشدنا النبيُّ الكريم -صلّى الله عليه وسلّم- إلى ذلك بقوله المبارك: “إنَّما مَثَلُ صَاحِب القُرآن كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلةِ: إِنْ عَاهَدَ عَلَيْه أَمْسَكَهَا، وإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ“(رواه البخاري).
وزاد مسلم: “وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ القُرآنِ فَقَرأَهُ بِاللَّيلِ والنَّهارِ ذَكَرَهُ، وإذا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ“. وقال أيضاً: “تَعَاهَدُوا هذا القُرآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإِبِلِ في عُقُلِهَا“(رواه البخاري ومسلم, واللفظ له).
وقد نهانا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن نسيان القرآن، ونهى كذلك عن قول الرجل نَسِيتُه، فقال: “بِئْسَ مَا لأَِحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيةَ كَيتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتذْكِرُوا القُرآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ صُدورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا“(رواه البخاري ومسلم, واللفظ له).
وسبب الذم ما فيه مِنَ الإِشعار بعدم الاعتناء بالقرآن؛ إذْ لا يقع النِّسيان إلاَّ بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حِفظُه وتذكُّرُه، فإذا قال الإنسان: نَسيت الآية الفلانية, فكأنما شهد على نفسه بالتَّفريط.
الحق الثاني: تدبُّرُ آياته:
ليست العبرة في التلاوة أن يُقرأ القرآن مرات متعدِّدة دون أن يصاحبها إدراك لما يُقرأ، والترتيل والتدبر مع قلة مقدار القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها؛ لأن المقصود من القراءة الفهم والتدبر والعمل.
والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعنى بصورة كاملة، وبالشكل المطلوب، ومن أجل ذلك كانت القراءة بتمهل خطوة نحو التدبر.
وقد ندَّدَ الله -تعالى- بصورة الاستفهام بمن لا يفتح عقلَه وقلبَه لتفهُّم القرآن من أجل إدراك ما فيه من حكم وأسرار ومواعظ وتشريعات، فقال -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
وإن الذي يقرأ القرآن بلا فهم كالمذياع يرتل قرآناً دون أن يفهم مِمَّا رتَّلَ شيئاً، وهو مخالف لهدف القرآن العظيم، فآيات كثيرة تشير إلى أن القرآن يُتلى لعلَّنا نتفكر، لعلَّنا نتدبر، لعلَّنا نعقل، لعلَّنا نُبصر. كما قال -تعالى-: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[البقرة: 242]، وقال -تعالى-: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24].
أمَّا الذي تسمع أذنه ولا يسمع عقله، أو تنظر عينه ولا يبصر قلبه، أو يتلو لسانه ولا يعي فكره فهو أصم أبكم أعمى. قال -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ)[يونس: 43].
وفي الآية إشارة واضحة إلى أن سماع القرآن أو تلاوته ليس هدفاً بذاته بل هو وسيلة لهدف، فقد كان المشركون يستمعون إلى القرآن ثم ينصرفون لا يحرك فيهم ساكناً تماماً كما يفعل بعض المسلمين اليوم، يستمعون إلى القرآن الكريم كل يوم من المذياع ثم ينصرفون لا يحرك فيهم ساكناً إذ يبقى المُطَفِّفُ مطفِّفاً، ويبقى الكاذب كاذباً، ويستمر المُرابي بمُراباته، ويواصل الفاسق فسوقه! فلقد أصبح سماع القرآن عادة.
ولقد ذمَّ الله هؤلاء المشركين مع استماعهم للقرآن؛ لأنهم لا يعقلون، ولأنهم لا يبصرون، ولأنهم لا يغيرون أهواءهم وأخطاءهم.
وفي قوله -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[الأعراف: 146]. قال سفيان بن عيينة: أَنْزِعُ عنهم فهم القرآن.
الحق الثالث: تعلُّمه وتعليمُه:
لقد حثَّ النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه الكرام وأُمَّته من بعده على تعلم القرآن وتعليمه بقوله: “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ“(رواه البخاري).
وقد بَعَثَ النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه إلى الأمصار المختلفة معلِّمين للقرآن الكريم: فبعث مصعبَ بن عمير وابنَ أم مكتوم في بيعة العقبة الثانية إلى المدينة؛ ليعلِّما الأنصار القرآن ويفقهانهم في الدِّين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، وكان يُسمَّى المُقرئ والقَارئ: يقول البراء بن عازب -رضي الله عنهما-: “أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ“(رواه البخاري).
وبعث -صلّى الله عليه وسلّم- معاذَ بنَ جبل -رضي الله عنه- قاضياً إلى اليمن يعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم.
واسْتَعْمَلَ -صلّى الله عليه وسلّم- عمرو بن حزم الخزرجي النَّجَاري -رضي الله عنه- على نجران ليفقّههم في الدين ويعلّمهم القرآن، ويأخذ الصَّدقات منهم.
وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- إذا صلى الغدَاة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلَط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك.
وكان هذا التَّعليم – من النبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم – مجَّانياً من غير مقابل، ولعل مَدرسة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- هي المدرسة الأولى التي رَفَعَتْ شِعارَ مجَّانية التعليم، وشعار إلزامية التعليم والتعلم. ولم يبقَ الأمرُ شِعاراً بل نزل إلى ساحة التطبيق والتنفيذ.
قال النووي -رحمه الله-: “تعليم المتعلِّمين فرض كفاية، فإن لم يكن مَنْ يصلح له إلاَّ واحد تَعَيَّنَ عليه، وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم: فإن امتنعوا كُلُّهم أَثِمُوا، وإن قام به بعضُهم سقط الحرج عن الباقين، وإن طُلِبَ من أحدهم وامتنع فأَظْهَرُ الوجهين، أنه لا يأثم لكن يُكْرَهُ له ذلك إِنْ لم يكن له عذر“.
ومع ترغيبه -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابَه في تعليم القرآن، كان يحثُّهم على الإخلاص في هذا التَّعليم: فعن سهل بن سعد السَّاعدي -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوماً، ونحن نقترئ، فقال: “الحمدُ لله، كتابُ الله واحدٌ، وفيكم الأحْمَرُ وفيكم الأَبْيَضُ وفيكم الأَسْوَدُ، اقْرَؤوهُ قَبْلَ أَنْ يَقْرأَهُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كما يَقُومُ السَّهْمُ يَتَعَجَّلُ أَجْرَهُ ولا يَتَأَجَّلُهُ“(حسن صحيح: رواه أبو داود).
فينبغي أن يحرص المسلمون على طلب الثواب الأخروي في تعلمهم وتعليمهم لكتاب الله -تعالى- ويجتهدوا في ذلك. ومن غير اللائق بمسلم نال أعلى الشهادات العلمية والخبرات العملية، ثم إذا سمعته يقرأ القرآن تعجبت من حاله وأمره، فلا يقيم حروفه وكلماته، وليس حاله كحال من يعذر لضعف تعليمه.
وإن من وسائل تعلمه وإتقانه: قراءته على أحد المقرئين، وكثرة الاستماع إليه، واستشعار عظمته وأنه كلام رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله …
من أعظم حقوق القرآن على المسلمين:
الحق الرابع: الدَّعوةُ إليه وتبليغُه للناس:
إن الواجب الشَّرعي يُوجِبُ على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض
ومغاربها، العرب منهم والعجم، تبليغ القرآن لغيرهم، والدَّعوة إليه، وإبراز محاسنه، وأنه حُجَّة الله على الخلق، قال الله -تعالى-: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 44].
وأَمْرُ الله لنبيِّه محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- هو أمر لأمته، وعليهم إكمال تنفيذ هذا التبليغ، كُلٌّ بقدر استطاعته، ولا شك أن العلماء تقع عليهم أعظم مسؤولية، بحكم تخصُّصهم بعلوم الشريعة، وقدرتهم على شرح أحكام القرآن وبيان معانيه للناس.
وقد أوحى الله -تعالى- القرآن لنبيه -صلّى الله عليه وسلّم- لينذر قومه ابتداءً ويبلغه للناس جميعاً، كما ذَكَرَ اللهُ -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)[الأنعام: 19].
قال الربيع بن أنس: “حَقٌّ على مَن اتَّبع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، أن يدعو كالذي دعا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وأن ينذر كالذي أنذر“.
والمسلمون كلُّهم أمة محمد -صلّى الله عليه وسلّم-، ويجب عليهم تبليغ رسالته، كما قال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]، فلا يكفي أن يكون المسلم صالحاً في نفسه، بل عليه بذل الجهد لإصلاح الآخرين وهدايتهم.
مسؤوليَّة العرب أكبر:
إنَّ عَرَبَ المسلمين اليوم عليهم مسؤوليَّة خاصة تجاه القرآن المجيد؛ لأنه نزل بلغتهم – وكفى بذلك شرفاً وفخراً لهم – فهم أعرف الناس بأسراره وفحواه، فوجب عليهم عرضه على العالمين، وشرح مزاياه، ومراد الله فيه.
والعامل يسمو بسموِّ العمل المناط به، وإن شرف العرب، وعلو شأنهم، وأهمية مركزهم، وما خصَّهم الله به من المزايا، جعلهم مؤهلين لنشر القرآن العظيم وتبليغه للناس، ولقد كرَّمهم الله -تعالى- باختيار أفضل الرسل منهم، كما قال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].
فمتى ينتبه العرب من غفوتهم؟ فإن الأمر جِدُّ خطير، والمسؤولية عظيمة، والأمانة ثقيلة، وإنَّ واجب الدَّعوة إلى القرآن في هذا العصر، يُوجِبُ على العرب خصوصاً والمسلمين عموماً، مضاعفة الجهد؛ لمواجهة طغيان المادة، والصِّراعات المذهبية، والغزو الفكري.
وإنَّ التَّصدِّي لهذا الزحف المخيف يتطلَّب أن يشعر كُلُّ فرد أنه على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام، ومن هذا الشُّعور فإنه يندفع لاستعمال كل الطرق والوسائل المتاحة لرفع راية القرآن العظيم، وتبليغه للناس أجمعين.