حاكميَّة الله - تعالى-: هي إفرادُ الله بكلِّ أمرٍ يحدُث في هذا الكون، ونسبته إليه فهو - عزَّ وجلَّ - خالقُ ومدبِّر ومصرِّف كلِّ شيء في هذا الكون.
كما أنَّ حاكميَّة الله - تعالى- هي تحكيم الله - عزَّ وجلَّ - وحْدَه في كلِّ ما دقَّ وجلَّ من حياتنا؛ إذِ الله هو المشرِّع للعباد، وهو الآمِر والناهي.
ولاستِحضار حاكميَّة الله - تعالى - في قلْب العبد أثرٌ عظيم في هذه الحياة؛ ذلك أنَّ حاكميَّة الله - عزَّ وجلَّ - تَعنِي: كمالَ الخضوع والتسليم لله - تعالى - كما تَعني: كمالَ فقْر العبد واحتِياجه لمولاه في كلِّ شؤونه، والعبدُ إذا فَهِم أنَّ الله - تعالى - هو الحَكَم في كونه، وهو الحاكِم في عباده كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم)) رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، وغيرهم، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع".
إذا عَلِم العبدُ هذا وعمل بمقتضاه، استَراح واطمَأنَّ قلبُه، وصَحَّت تصوُّراتُه عن الكون، وعن دَورِه فيه.
وأمَّا إذا تنكَّر الإنسانُ لهذا المعنى الجليل، أو جَهِله ولم يفهمه، فلم يشهدْ قلبُه حاكميَّةَ الله - تعالى - في كونه وعلى عباده - فإنَّه يَشقَى في ظُلُمات الشكِّ والحيرة والضَّلال، ويَشقَى في تفسير ما يدور حولَه في الكون، فلا يَهتدِي لفَهْم سُننِ الله - تعالى - القائمة الثابتة في كونه ولا يَهتَدِي لأعظم الحقائق الموجودة فيه، ولا يعقل تدابيرَ الله المَلِك العدل.
كما يَشقَى في فَهْم دوره في هذه الحياة، وفي فَهْم مجالات عمله كعبدٍ، وفي تصوُّراتِه عن الله وعن نفسِه.
وليس أشقَى للإنسان من أن يجهل حقيقةَ نفسِه، وحدودَ علاقتِه بالله وبالكون حوله فيصدق عليه قول الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].
فعُوقب بجنس عملِه، وناسَب أن يُحشَر في الآخرة أعمى، كما عاش في الدنيا أعمى.
وحاكمية الله - تعالى - في قلْب المؤمن: كونيَّة وشرعيَّة:
فالكونيَّة هي: شهود تدبير الله في كونه وعبادِه حسبَ إرادته ومشيئته - تعالى - كما قيل في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]: يُحيي ويُمِيت، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل ما يشاء.
وهي المذكورة في قوله - تعالى-: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
فيرى المؤمنُ بقلبه أنَّ الله هو فاعل كلِّ هذا ومُسَبِّبه، فيطمئن قلبُه لأقدار الله -تعالى- اللطيف الخبير ويشكر نِعمَه فلا تُطغِيه، ويَرضى بما قدَّره من نَصَبٍ أو مصيبة، فلا يتسخَّط.
والله - عزَّ وجلَّ - يَحكُم كونَه بما أراد؛ لأنَّه ربُّ هذا الكون ومُدَبِّره، ويَحكُم في عباده بما يَشاء لأنَّه مالِكُهم وخالِقُهم، فالعِباد جميعهم - مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم - لا يخرُجون عن حُكم الله الكونيِّ القدريِّ؛ كما قيل في قوله -تعالى-: ﴿ لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33] أي: لا تخرجون عن حُكمي وسلطاني إلاَّ بِملك لكم، وليس لكم ملك.
وحاكميَّة الله -تعالى- الشرعيَّة في قلْب المؤمن تعني: الانقِياد لشرع الله، والتسليمَ لأحكامه كما قال - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
فيِزن المؤمن أقوالَه وأفعاله بشرع الله -تعالى- فما وافَق منهجَ الله أمضاه، وما خالَفه رجَع عنه؛ بل لم يُقدِم عليه أوَّلاً، حتى إنَّه لا يُحرِّك ساكنًا، ولا يُسكِّن متحرِّكًا إلاَّ لله وابتغاء مرضاته، وتلك حقيقة العبودية لله - عزَّ وجلَّ.
والمؤمن يشهد قلبُه على الدوام قولَ فاطِرِه وبارئه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [آل عمران: 50] فيرضى بأحكام الله ويمتَثِلها، ولو جاءت أحيانًا على خلاف ما يُحِبُّ ويَهوَى إذ يُوقِن أنَّ الله - تعالى - يعلم ما لا يعلمه، وأنَّ حكمه هو الأحسن.
ولشهود حاكميَّة الله في قلب المؤمن ثمار كثيرة، أعظمها:
♦ الرِّضا بأقدار الله - تعالى - وعدم تسخُّطها؛ لأنَّها واقعة بأمر الله - تعالى - الحكيم العليم وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن! إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلاَّ للمؤمن؛ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شَكر، فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيرًا له)) رواه مسلم من حديث صهيب، وفي رواية: ((والذي نفسي بيده، لا يَقضِي الله لمؤمنٍ قضاءً إلاَّ كان خيرًا له))؛ صحَّحها الألباني في تحقيقه لـ"شرح الطحاوية".
♦ فَهْم سُنن الله - تعالى - الجارية في كونه وخلقه، وذلك برؤية حُكم الله الكوني والشرعي فيمَن سَبقَنا من الأُمَم أو الأجيال؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ للَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 109].
♦ امتِثال أمر الله - تعالى - واجتِناب نهيه؛ إذ الخالق المالك المدبِّر المصرِّف حقُّه أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وإذا ما شاهَد العبدُ بقلبه مقامَ حُكم الله الكوني والشرعي، سهُلتْ عليه الطاعة، وثقُلتْ على نفسه المعصية.
وانظر كيف عبَّر يوسف - عليه السلام - في حديثه عن أصْل السيِّئات، وهي سيِّئة الشِّرْك: ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 38]، ثم قال في خاتمة حديثه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40].
فشهودُ حاكميَّة الله - تعالى - جعَلَه يقول: ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ﴾.
وهكذا يقول المؤمن إذا هَمَّ بمعصية، أو دُعِي إليها، أو سوَّلَتْها له نفسه يقول: ما كان لي أن أعصيَ الله، وهو القادرُ عليَّ، الحاكم فيَّ، المدبِّر لشؤوني حتى وأنا أعصيه، ما كان لي أن أَعصيَه وقد نهاني.
♦ تحرير العِباد من الرِّقِّ لغير الله والذلِّ لِمَن سِواه؛ فكلّ مَن حَكَم في الناس بغيرِ أمْر الله وبمعصية الله - إنَّما طاعتُه مُضاهاةٌ لعبوديَّة الله - عزَّ وجلَّ - كما قال - تعالى -: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31].
قال عدي بن حاتم:
"أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وفي عُنقي صَليبٌ من ذهب، فقال: ((يا عديُّ، اطرحْ عنك هذا الوَثَن))، وسمعتُه يقرأ في سورة براءة ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ... ﴾، قال: ((أَمَا إنَّهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّمُوه)) رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترمذي".
وفي روايةٍ للبيهقي:
"قلت: يا رسول الله، إنَّهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: ((أجَلْ؛ ولكن يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه، ويُحرِّمون عليهم ما أحلَّ الله فيحرِّمونه؛ فتلك عبادتهم لهم)).
فجعل -صلى الله عليه وسلم- التحليلَ والتحريم عبادةً لا تُصرَف لغير الله - تعالى- وصرفُ عبادة التحليل والتحريم لله وحدَه، يُسوِّي بين الناس جميعًا، ولا يذلُّ بعضَهم لبعض، بل يذلُّ الجميع لله وحدَه.
♦ تصحيح ووضوح تصوُّرات الإنسان في هذه الحياة؛ لأنَّه يستَقِيها من شهودِه بقلبه حُكمَ الله - تعالى - الذي هو الأحسن والأقوم؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].
وبهذا تكتَمِل للإنسانِ السعادةُ في الدارَيْن، ويَحيا بحكم الله الشرعي في حكم الله الكوني يحيا مطمئنَّ القلب، مرتاحَ البال، مستقيمَ السلوك، على بصيرةٍ بأمر الكون حولَه وبمكانته فيه، فلا يُصادم سُننَ الله - تعالى - الكونيَّة فيَشقى، ولا يُخالف أحكامَه الشرعية فيردَى، فيؤدِّي وظائفَه في هذه الحياة كما أراد الله - تعالى - له.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.