يُنسب إلى جوبلز وزير إعلام هتلر أنه قال: “إذا سمعتُ كلمة مثقفين تحسستُ مسدسي”. وهي عبارة تدور في نطاق ما يُقال عن التناقض الكامن في ثنائية (المثقف والسلطة).
أمّا في هذه البلاد التي حباها الله بميزات لا تتوفر لغيرها، فقد ذهب سمو أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل بنفسه إلى النادي الأدبي الثقافي بجدة، وطلب من المثقفين مباشرة أن يساهموا بكتاباتهم في ثقافة التنمية، وإشاعة ثقافة الأمل، ونَقْد ثقافة الإحباط، وأنشأ قبل ذلك مجلس مكة الثقافي، من أجل الهدف ذاته، وعلى مستوى أوسع، أطلق من مؤسسة الفكر العربي التقرير الأول للتنمية الثقافية، الذي يرصد بدقة الأوضاع الثقافية في الوطن العربي؛ ممّا يدل على منهجية متكاملة، تتجاوز مسألة الأفكار الطارئة.
وبما أن ثقافة التنمية تستلزم تنمية الثقافة، فإن الأمر يقتضي الدخول في العناصر التفصيلية، والبحث عن تصحيح بعض المفاهيم، في الواقع المحلي، وينسحب هذا أيضًا على المحيط العربي. وسوف أختار اليوم جزئية أرى أنها أساسية في هذا السياق، ألا وهي جزئية (مفهوم الزمن)، وما يتعلق بها من مشكلة عدم الإحساس بالوقت.
يُجمع علماء الإدارة على أن (الوقت) هو أثمن الموارد على الإطلاق؛ ومن خصائصه أن امتلاكه في الأساس يتم دون مقابل، وأنه موزّع بين البشر بعدالة، فاليوم (24) ساعة بالنسبة للجميع، يستوي في هذا رئيس أكبر دولة في العالم، مع صاحب أي مهنة بسيطة. ومن خصائص الوقت أيضًا أنه لا يمكن تعويضه إلاَّ بإهدار المزيد منه، وما ينقضي منه لا يمكن استرجاعه، ولا يُعار ولا يُستعار، والفائض منه لا يُمكن تخزينه. وهذه الخصائص والميزات في مجموعها، سنّة من سنن الخالق جل وعلا، هذا في المقام الأول، ومن جهة ثانية لا تتوفر مجتمعة، في أي مورد آخر. ولكن أغلب هذه الحقائق البديهية، تطمسها أحيانًا الثقافة السائدة في أي مكان في العالم، بحسب طبيعتها الخاصة، وبما قد تنطوي عليه من أغاليط، نتيجة عيوبها الموروثة.
ولذلك تتأسّس التصورات الثقافية المغلوطة بصفتها أهم عوائق التنمية، وعلى سبيل المثال، فإنه رغم توفر القدرة المالية داخليًّا، والرغبة الرسمية في الإنجاز، فإن من أبرز العوائق أن مفهوم (الزمن) في الثقافة السائدة ملتبس بشكل فادح، يتداخل فيه الخرافي بالخيالي بالأسطوري بالقدري، ممّا يؤثر على تحقيق مبدأ عمران الأرض، الذي يعتبر من أهم المقاصد السامية العليا، وتتفرع عنه عدد من المقاصد الأخرى.
ومع أن الجمود والتخلّف ليسا قدرًا حتميًّا، ولم تأمر بهما شريعة سماوية، ولا فلسفة بشرية، إلاَّ أن تأثير التصورات الثقافية ينعكس على واقع الحياة؛ فمصالح الناس تتعطّل، وإنجاز المشاريع في وقتها يتعثّر، والتسيب الوظيفي (إهدار الوقت المخصص للعمل) ينتشر، ومدة بقاء الطلاب والطالبات على مقاعد الدراسة أقل من أغلب دول العالم، مع أن عدد المواد الدراسية المفروضة عليهم من أعلى المعدلات في العالم من ناحية الكم؛ ممّا يدعو إلى مراجعة فاحصة لهيمنة الأزمنة الدائرية الملتبسة والمتداخلة، أزمنة الانتظار والتسويف والإحباط واللامبالاة، والانتقال إلى مفهوم الزمن المستقيم (سُنّة الوقت)، بصفتها من الدعامات الأساسية لعملية التنمية، بما يحقق فضيلة العمران، وبما ينسجم مع قول المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها”. دلالة على أهمية الفعل الناجز، وديمومة العمل وانتظامه، بصرف النظر عن أي معوقات أو أعذار، لأن العمل ضرب من العبادة الفعلية، ويقتضي التفاني والإخلاص التام.
وبيئة العمل جزء من البيئة الثقافية العامة؛ أي من ذلك النمط الثقافي المتأثر في العمق ببنية التخلّف، التي تشكّلت وترسّخت مع الزمن، طيلة عصور الانحطاط، وينتقل التأثير إلى مجموعة العاملين، على حد سواء؛ فالموظف الصغير، والمدير الكبير، لم يهبطا من السماء، فكلاهما منتج ثقافي. ولهذا يستحق الإصلاح الثقافي -من خلال تفكيك بنية المفاهيم التفصيلية الملتبسة- درجة الأولوية، لأن الثقافة السائدة هي الوعاء الحاضن لحزمة من المتاهات المعرفية، والتصورات المغلوطة، القادرة على تعطيل مراكب التنمية السائرة.