إن الغرض من وضع العلماء للمتون والمختصرات لم يكن من الترف العلمي، ولا من النوافل في التأليف؛ وإنما من أساسيات التدرُّج في طلب العلم، ومن ثوابت تعلُّمه؛ فالغرض من وضع المتون حكيم، وهو جمع المسائل الأولية اليسيرة في متون صغيرة بعبارة سهلة؛ لتكون بداية الانطلاق في الطلب.
وقد قيل عن المتون: حفظتْ من العلم جوهره ولبابه، وقامت ولا تزال بدورها الكريم في مسرح التعليم، من ذلك العصر البعيد إلى عصرنا الجديد، وقيل قديمًا: (من حفظ المتون حاز الفنون).
فالذي يحفظ المتن ويفهم ما فيه من معانٍ، يكون حافظًا لذلك الفن، مستحضرًا لمسائله وأدلته في أي وقت، من غير حاجة إلى الرجوع إلى الكتاب؛ لذلك قيل: (من حفظ الأصول ضمن الوصول)، وكذلك قولهم: (من لم يتقن الأصول حرم الوصول).
ومن فوائد حفظ المتون:
♦ بقاء المعلومات في الذهن، وتظهر فائدة الحفظ ومنفعته عند فَقْدِ الكتاب، أو فَقْدِ الإضاءة ليلًا، أو فقد البصر.
♦ استحضار المعلومات بكل يُسرٍ وسهولةٍ؛ إن حفظ المتن يساعد ويعين على استحضار المعلومات بكل يُسْرٍ وسهولة، كما أنه يساعد على الضبط والإتقان للعلوم، مع ما يُثمره الحفظ من تقوية الذاكرة، وتنمية الذكاء، وحفظ الوقت، والإعانة على التفوُّق على الأقران.
♦ إن الحافظ يُقدَّم على غيره، وتظهر ميزتُه بين أهل العلم أنفسهم؛ ولهذا قال صاحب الرحبية لما ذكر الفروض المقدرة في كتاب الله:
والثلثان وهما التمام *** فاحفظ فكلُّ حافظٍ إمام
قال البقري على قوله: "فكل حافظ إمام": ((أي: مقدم على غيره ممن لم يكن مثله، بأن كان أدون حفظًا، أو لم يحفظ شيئًا))[1]، وقال ابن غليون في شرح البيت السابق: ((أي: مقتدى به مقدم على غيره، فمن جدَّ وجد، ومن فرش رقد، ومن زرع حصد، ومن كسل نال الهم، والندم، والنكد))[2]، وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة بلوغ المرام: ((أما بعد: فهذا مختصر يشمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، حررته تحريرًا بالغًا؛ ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغًا))[3].
♦ إن المتن يجمع لحافظه صورة مجملة عن الفن الذي ألف فيه، وأنا أراه اليوم بمثابة تشجيرات العلوم والمخطَّطات التوضيحية لها، فالمتون تجمع حقائق العلم في ورقات يسهل حفظها، ويسهل استحضارها في الدروس، والمناسبات.
♦ إن الحافظ للمتون يستطيع الإحاطة بها في زمن قليل، وما هي إلا مدخل للعلوم، وليست هي الغاية وإليها النهاية؛ بل هي الأساس والبداية.
♦ إن المتن هو الأساس الذي يبني عليه الطالب علمه في كل فنٍّ بحسبه، فمن عرف المسائل من دون حفظ المتن كمن بنى من دون أساس.
♦ إن الذين يحفظون المتون ويتقنونها أقربُ إلى الابتكار والإبداع وإلى الاجتهاد من غيرهم، والناظر في تراجم العلماء، وكيفية طلب العلم بالنسبة لهم، يدرك تمامًا صحة هذه الطريقة.
ومن أروع ما قرأتُه ما كتبه الأخ أبو مالك العوضي في مقاله: (لماذا ينصحُ أهلُ العلم بحفظ المتون؟) على صفحته في موقع الألوكة؛ قال:
والمتون لطالب العلم كهذه البذرة لهذه الأشجار، عليها تُبتنى الشجرة العظيمة، وبها يزداد كل يوم فروعًا وأغصانًا، تستمدُّ نورها من أصل هذه البذرة؛ فالورقة لا تصلح بغير غصن، والغُصْن لا يصلح بغير فرعٍ، والفرع لا يصلح بغير جذع، والجذع لا يصلح بغير أصل الشجرة. ثم قال:
♦ فالمتون هي التي تجمع العلم في رأس الإنسان فيستطيع أن يستحضر ما يشاء بسهولة!
♦ والمتون هي التي تضمن للإنسان ألا يفوته شيء من أصول العلوم!
♦ والمتون هي التي تفرق بين الطالب الذي يشتغل بالفروع بغير تأصيل وبين صاحب التأصيل الأصيل!
♦ والمتون هي التي تختصر عليك أعمارًا بَذَلَها من قبلك – علماؤنا - حتى أتوك بالزبدة والخلاصة التي تحتاج أنت إلى أضعاف أضعاف عمرك حتى تُحصِّلها وحدك!
♦ والمتون هي التي تبقى معك بعد سنوات طوال من القراءة في كتب لا تلبث أن تنساها!
♦ والمتون هي التي تجعلك واثقًا بكلامك في مجلس المدارسة والمناظرة، فيسلم لك المؤالف والمخالف!
♦ والمتون هي التي تجعل لكلامك حلاوة وطلاوة، فيكون له وقع عند العامة والخاصة!
♦ والمتون هي الشهادة التي لها قيمة حقيقية في زمن كثرت فيها شهادات الزور!
♦ والمتون هي الأساس الذي تستطيع أن تسقيه كل ما تحصله من ماء العلم الطيب، فيرسخ في ذهنك، بدلًا من وضع هذا الماء في قيعان لا أصل لها، فلا يكاد يبقى منه شيء![4]
[1] حاشية البقري على شرح الرحبية 14.
[2] التحفة في علم المواريث 99.
[3] بلوغ المرام 20.
[4] ينظر: مقال لماذا ينصحُ أهلُ العلم بحفظ المتون؟ لأبي مالك العوضي في مقاله.