الحمد لله... جمع النبي صلى الله عليه وسلم في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، عاف الخرافة ونأى عنها، عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً؛ بل كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى[1].
ولعل في حديث أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما يدل على هذه الأخلاق الفاضلة والخلال الكريمة التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم، حين قالت له: (وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)[2].
نعم أيها الأحبة .. لقد كانت حياة النبي قبل البعثة مثالاً رائعاً في الخُلق العظيم والسلوك القويم، في النظرية والتطبيق، فكانت سيرته تطبيقاً عملياً لما حملته نفسه الشريفة من أخلاق كريمة، يدلنا على ذلك هذه الصفحات الناصعة من سيرته قبل البعثة.
الصفحة الأُولى: عمله صلى الله عليه وسلم.
عاش النبي صلى الله عليه وسلم حُرًّا كريماً يأكل من عمل يده، فما إن شَبَّ حتى خرج إلى البادية راعياً للغنم، فكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنمَ لأهل مكة على قراريط[3]، فعمل في رعي الغنم، ثم انتقل صلى الله عليه وسلم إلى التجارة، فعمل بها وشارك الناس في التجارة، وكان ممَّن شاركهم رجل يُدعى: (السائب بن أبي السائب المخزومي، فكان خير شريك له، لا يُداري ولا يُماري، وجاءه يوم الفتح فرحب به، وقال: مرحبًا بأخي وشريكي)[4].
وفي هذه الفترة اشتهرت عنه أمانته، كما اشتهر بصدقه، فلقَّبه الناس بالصادق الأمين، ولعل هذا ما دفع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، أن تدعوه إلى أن يخرج بمالها متاجراً إلى بلاد الشام.
فقد ذكر ابن هشام: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره خرج تاجراً إلى الشام في مال خديجة، وكانت خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلمَّا بلغها صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه فبعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تُعطي غيره من التجار، مع غلام لها اسمه "ميسرة"، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها[5]، تأمل - أخي الكريم - في أسباب اختيارها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، إنها الأخلاق والأمانة وحسن المنطق والسلوك، وفي هذه المرحلة من التجارة زاد مال خديجة.
أيها الإخوة الكرام .. لا يخفى عليكم ما في السفر والتجارة من الفوائد العظيمة، فقد أكسب السفر الرسول الكريم خبرات عملية، فاختلط بأهل الشام وأهل البلاد التي مر بها، وعرف صنائعهم وعاداتهم، وكيفية معاملتهم، كما أكسبته التجارة الذكاء، والقدرة على المفاوضات والاكتساب وإدارة الأموال وحسن التصرف فيها، وهذا من تدبير الله تعالى لنبيه؛ لأنه سيتحمل - فيما بعد - تبعات الرسالة الخاتمة.
الصفحة الثانية: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم قومه في حياتهم وشؤونهم.
لا يخفى عليكم - إخوتي الكرام - ما تمتَّع به النبي صلى الله عليه وسلم في قومه من مكانة عظيمة ومنزلة سامية استمدَّها من حسبه وشرفه ونسبه؛ فهو ابن عبد المطلب سيد قريش وزعيمها، والذي دأب على اصطحابه معه في كل محفل، وهو ابن أخي أبي طالبٍ سيد قومه بعد أبيه.
والنبي صلى الله عليه وسلم شبَّ في هذا الجو من السيادة، فشهد زعماء قومه وسادتهم فعرف طباعهم وحضر مجالسهم، وقد أثر فيه هذا تأثيراً كثيراً، يتَّضح ذلك من خلال ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: حرب الفُجَّار. (الفِجَار)
لمَّا كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم عشرين عاماً وقعت - في سوق عكاظ - حرب بين قريش ومعهم كِنانة، وبين قَيْسِ عَيْلان، وسببها: أن أحد بني كنانة؛ واسمه "البَرَّاضُ" اغتال ثلاثة من قَيْسِ عَيْلان، ووصل الخبر إلى عكاظ، فثار الطرفان، ووقعت بينهم معركة - طيلة النهار - ثم تداعوا إلى الصلح، فاتفقوا على حصر قتلى الفريقين، فمن وُجِدَ قتلاه أكثر أخذ دية الزائد، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يَنْبُل على عمومته؛ أي: يجهز لهم النبل للرمي[6].
وفي حضور النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحرب - في هذه السن المبكرة - فائدة عظيمة، إذ عرف معنى الحرب وشارك فيها، وعرف معنى الأحلاف وكيف يَهُبُّ الحليف لنصرة حليفه، وعرف الصلح وكيف يكون.
الموقف الثاني: حِلف الفُضُول.
قال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا؛ مَا أُحِبّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإسْلامِ لأَجَبْت)[7]، حيث اجتمعت قبائل قريش، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألاَّ يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلاَّ قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرد عليه مظلمته.
وسببه: أن رجلاً من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل وحبس عنه حقَّه، فاستعدى عليه الأحلافَ فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعاً صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك[8].
عباد الله .. ونلمح من السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دُعِيَ إلى هذا الحلف، وهذا دليل على مكانته ومنزلته بين قومه في الجاهلية وقبل البعثة.
الموقف الثالث: التحكيم في بناء الكعبة.
ذكر ابن هشام: أنَّ قريشاً قامت بهدم الكعبة وبنائها، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين عاماً، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلاَّ أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يُحكِّموا - فيما شجر بينهم - أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله تعالى أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه، أخذه بيده، فوضعه في مكانه[9].
معشر الفضلاء .. في الخبر المذكور فوائد جمة، منها:
1- أنهم عندما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ارتضوه جميعاً، فلم يعترض عليه أحد، وهذا يدل على قدره ومنزلته بينهم.
2- ومنها: حكمته صلى الله عليه وسلم وفطنته وحسن تصرفه؛ فقد أنهى الخلاف، وأرضى جميع الأطراف.
3- ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخذ الحجر الأسود ووضعه في موضعه، فقد امتاز النبي صلى الله عليه وسلم بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه، وبرضاهم جميعاً، كرامةً من الله تعالى له.
وهكذا عاش النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته بين قومه، مشاركاً لهم في حروبهم ومعاهداتهم، وحل مشاكلهم، وفي هذا تدريب عملي من الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وإعداد لقائد الأمة وحامل لوائها وصاحب أعظم رسالة إلى يوم القيامة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
الصفحة الثالثة: زواج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
لما سافر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام متاجراً بمال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وعندما عاد (أخبرها غلامُها مَيْسَرَةُ بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من شمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة - وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك - فتحدَّثت بما في نفسها إلى صديقتها نَفِيسة بنتِ مُنبه، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تُفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك)[10]، وكانت سِنُّها إذ ذاك أربعين سنة، ولم يتزوج عليها غيرها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت.
أيها الإخوة الكرام .. كانت هذه الخطبة موجز سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة في مرحلة شبابه، وقبل تنزُّل الوحي إليه.
[1] انظر: الرحيق المختوم، (ص 68).
[2] رواه البخاري، (2 /1036)، (ح 5005).
[3] انظر: صحيح البخاري، (1 /418)، (ح 2306).
[4] الرحيق المختوم، (ص 45).
[5] انظر: سيرة ابن هشام، (1 /187).
[6] انظر: الرحيق المختوم، (ص 43).
[7] سيرة ابن هشام، (1 /133)؛ الروض الأنف، (1/241). وصححه الألباني في (فقه السيرة)، (ص 67).