الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نحمد ونشكره على كل حال، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً، سيداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. ونشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، ونبيُّه، وصفيُّه، ونجيُّه، ووليُّه، ورضيُّه، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وعلى أصحابه الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً، ففتح الله بدعوته أعيناً عمياً، وأذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكان أول ما أنعم الله على الأمة المحمدية من نوره المبين ما نزل به الروح الأمين، على قلب خاتم المرسلين، في غار حراء المكين، فكان ذلك مفتاحاً للنور الذي لا يذهب، وعيناً جارية للعذب الزلال الذي لا ينضب، والحق الصريح القوي الذي لا يُغلب، وكان من توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وترويضه لما يشاء من حمل الوحي وتبليغه أن حبب له الخلاء في غار حراء "وهو غار على مسافة بضعة أميال من مكة، والتي ينقطع عندها لغو الناس وحديثهم الباطل، ويبدأ السكون الشامل المستغرق.. في هذه القمة السامقة المنزوية كان محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ زاد الليالي الطوال، ثم ينقطع عن العالمين متجهاً بفؤاده المشوق إلى رب العالمين.. في هذا الغار المهيب المحجَّب كانت نفس كبيرة تطل من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم واعتداء وانكسار، ثم تتلوى حسرة وحيرة؛ لأنها لا تدري من ذلك مخرجاً، ولا تعرف له علاجاً!! في هذا الغار النائي كانت عين نفاذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم المعتم لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه!. في غار حراء كان محمد عليه الصلاة والسلام يتعبد، ويصقل قلبه، وينقي روحه، ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه، حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوَّة، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح. في هذا الغار اتصل محمد صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى"1. وقد كان مجيء الوحي لرسول الله في التاسع من ربيع الأول عام 41 من ميلاده، المصادف12/فبراير 610م يوم الاثنين2. وقصة مجيء الوحي إليه مشهورة في حديث عائشة الطويل، لكننا سنأخذ من ذلك العبر والدروس.. فمن ذلك: 1. انعزال الناس عند فساد الزمان، وعبادة الأوثان والمادة والطاغوت، والفرار بالدين إلى الأماكن الآمنة التي تصفو فيها الروح، وترتاح النفس، وتؤدي العبادة في جو من التأمل والتفكر في آلاء الله العظيمة، بعيداً عن صخب الحياة وضجيجها وعبادة المادة التي أهلكت الناس، وهذه العزلة لا تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما على الإنسان أن يفعل ذلك، فإن أبى الناس فعليه بخاصة نفسه وليدع أمر العامة.. ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يترك الجاهلية وراء ظهره، ويتطلع إلى آفاق جديدة تمحو ذلك الهراء الساذج الذي سار عليه العرب والعالم أجمع في عصره، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حصول الفتن بعد وفاته وتلاحقها حتى يكون خير مال الرجل غنماً يتتبع بها رؤوس الجبال فراراً بدينه من الفتن!. وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يذكرنا بموقف الفتية المؤمنين الذين انعزلوا قومهم المشركين ودخلوا كهفاً فراراً بدينهم، فأجرى الله عليهم من آياته ما هو مذكور في سورة الكهف.. 2. تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم وعبادته وتأمله في الكون، وتعبده في الغار تيسير من الله تعالى وتمهيد لتحمل الرسالة الكبرى، فهي أكبر رسالة عرفها الدهر، وهي أطهر رسالة أشرقت بها الأرض بإذن ربها! وهذه الرسالة حمل ثقيل لا تحملها إلا النفوس الطاهرة، ولا تستمتع بثقلها إلا القلوب الزاكية، ولهذا قال تعالى لرسوله عن هذه الرسالة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}[المزمل: 5]. 3. أن رؤيا الأنبياء حق وصدق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.. وقد قال الله تعالى عن رؤيا إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: 102].. وأما رؤيا غيرهم من الناس فإن كانت رؤيا صالحة فهي بشارة من البشارات، ولا ينبني عليها حكم شرعي، فلا يُحلَّ بها حرام، ولا يُحرَّم بها حلال، ولا تكون بها البدعة سنة، ولا السنة بدعة.. وإنما هي بشارة لمن رآها أو لمن رؤيت له، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[يونس: 64] فقال: ((هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له))3. 4. الخلوة بالله تورث العبد راحة وطمأنينة وأنساً وقرباً، وحسن عبادة، وكثرة المعاشرة للبشر تقسي القلب، وتورث الضغائن، فيحسن بالإنسان أن يكون له من دهره أياماً يخلو بها بربه، فيقترب منه ويناجيه، ويحاسب نفسه ويعاتبها؛ حتى تستقيم على الملة، وتزكو كما يريد خالقها العليم، ومن هذا الباب شُرع الاعتكاف، وهو حبس النفس على عبادة الله مدة معينة، يتفرغ الإنسان خلالها لربه وخالقه ومالك أمره. وسبحان الله العظيم! فهذا الأمر من جربه وجد فيه أنساً وقرباً وراحة لا تعدلها راحة الدنيا ونعيمها.. 5. أن أسعد ما يناله الإنسان من هذه الحياة امرأة صالحة مصلحة تعينه عند الشدائد، وتهون عليه الكربات، وتتحفه بالكلمة التي تسكن أعماق القلب! فتحول الهم -بإذن الله- سروراً وفرحة.. فهذه الطاهرة المطهرة الزاكية المبجلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها وحشرنا الله في زمرتها- تلك المرأة الرضية المرضية التي أقرأها الله السلام على لسان جبريل على لسان محمد! -وهذا أعلى إسناد في تاريخ البشرية!- خففت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجد من الخوف، وهول المنظر الذي عاينه، وذعر الصدمة من المنظر الذي لم يعرفه في أيامه الغابرة، فحولت الهم إلى فرج، والحزن إلى فرح، وتوقُّع الضر إلى استبشار بالخير! –بقدرة الله ومشيئته- لما جاءها خائفاً مذعوراً وهو يرتجف وقد قال لها: ((لقد خشيت على نفسي!)) أجابته بلا تردد ولا توقف: "كلا!! والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق!". رفْضٌ للخوف.. كلا! وقسم عظيم يدل على ثقة عالية برب العالمين، الذي لم تعرفه خديجة بعد عن طريق الوحي! بل عرفته من آلائه وآياته العظيمة. ما أجمل الدهر عندما يظفر الإنسان بأمثال هذه النساء! وما أنعم الحياة إذا كانت مع نساء من أمثال خديجة، وما أتعس الحياة إن كانت بغير ذلك!!.. ثم لم تكتفِ بذلك فحسب، بل شرعت تذكِّره بصفاته الجميلة، وأخلاقه العالية التي يُدفع عنه بها الشر.. ومن هذا نأخذ درساً آخر وهو: 6. (أن فعل المعروف يقي مصارع السوء) وهذا حديث تكلم به محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن نزل عليه: (اقرأ).. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء))4 والشاهد من هذه القصة أن خديجة رضي الله عنها استنتجت من خلال فطرتها الطاهرة أن أي إنسان يحسن إلى الناس ويعاملهم المعاملة الطيبة، وألسنة الناس لا تكل من الثناء عليه، لا يمكن أن يهان أو يفضح أو يصيبه ضرر لأن الله معه.. ولهذا ذهبت تعدد له الحسنات السابقة التي تحفظه في مستقبل أمره.. ثم جاء محمد ليؤكد على هذا الأمر بعد بعثته ليقول للعالم: ((فعل المعروف يقي مصارع السوء))، فكم من حسنة كانت السبب في نجاة صاحبها في أصعب المواقف، وأخطر الظروف! وكم من جميل ومعروف أسداه العبد للناس كان صمام أمانه طول حياته!.. هذا في الحياة الدنيئة، فكيف بيوم الكرم من أكرم الكرماء!؟! 7. في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة المرضية رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي)) دليل على أن الخوف الطبيعي الجبلي الذي يحصل للبشر يعتري كل الناس حتى الأنبياء، وأنه لا ملامة فيه، لأن الخوف هنا لم يكن ناتجاً عن جبن في النفس، بل هو ناتج عن مفاجأة هائلة مذهلة! وهذا الخوف وقع لنبي الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام عندما ذهبا إلى فرعون فقال الله عن ذلك: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}[طـه: 45]. ولما ألقى السحرة عصيهم وحبالهم ورآها موسى تسعى خاف منها الخوف الجبلي؛ ولهذا قال الله عنه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى* قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}[طـه: 67-68]. فهذا الخوف خوف فطري يحصل للنفس الإنسانية إذا فوجئت بأمر ولم تكن مستعدة له، ولا يلام عليه الإنسان. 8. أن أعظم ما يفتخر به الإنسان في هذه الدنيا، وأجل ما يفرح به هو ذلك الوحي المبين والقرآن العظيم، الذي نزل به الروح الأمين، من رب العالمين، على محمد الأمين، ليكون من المنذرين، فما أتعس النفوس وأشقاها عندما تفرح بالحطام الفاني وتترك شرع محمد وكتابه جانباً! وعندما تتنكر لدين تعب لأجله الأولون، ووجل من وثبته رسول الله، وكاد قلبه يطير خوفاً، وانسلخ جلد بلال وذاب شحم ظهره من أجله! وقتل من قتل من أجله! ثم يأتي أناس في آخر الزمن وصل إليهم الدين غضاً طرياً ولا يبالون به!! ولا يتعبون أنفسهم في طلبه، بل لم يصل الأمر إلى ذلك فحسب إنما تعداه إلى السخرية بشرع محمد، وهم من أرذال الأمة الذين لم يعرفوا للدين قدره! وركبوا مخالفات هذا القرآن ليل نهار، واتخذوه وراءهم ظهرياً! 9. أن التاريخ لا يصنعه إلا العظماء من أمثال محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه الكرام، وأن هذا الدين لا تحمله إلا النفوس الزاكية القوية بربها، العزيزة بمبدئها، أما الرعاع والسفلة ومن همه بطنه وشهوته فهؤلاء إلى الهاوية.. هاوية التاريخ التي لا تذكر أحداً. نسأل الله أن يجعلنا من أتباع محمد الذين اهتدوا بالحق وبه يعدلون، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يدخلنا الجنة دار السلام، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. اللهم صلِّ على محمد كلما شذا عطر وفاح، وكلما لمع نجم ولاح، وكلما غرد حمام وصاح، وكلما غدا يوم وراح.. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.. والحمد لله رب العالمين.. .................................................. . 1- ما بين القوسين من (فقه السيرة) لمحمد الغزالي ص 85.
2- انظر: (رحمة للعالمين) للمنصورفوري (1/41). 3- رواه الترمذي في سننه، وروى نحوه مسلم. 4- شعب الإيمان للبيهقي (3168)، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع رقم (3760).