مالُ المرء قرين نفسه ـ في المنزلة ـ في الشرع والواقع، ولهذا جاد المؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر بأموالهم كما جادوا بأنفسهم، ونالوا عز الدنيا وسعادة الأبد بهذا البذل السخي ابتغاء وجه الله ومرضاته، وَبَخِلَ المنافقون والكفار بأموالهم وكان ذلك من أسباب خسرانهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، ولذا باؤوا بغضب الله ولعنته والعذاب الأليم والخلود في الجحيم لكونهم لم يؤمنوا، فكانوا يقبضون أيديهم، نسوا الله فنسيهم.
فكان من أقوى أسباب إعراض الكفار والمنافقين وصدودهم عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الشح بدنياهم، لمسْكِهِم وريبهم وتوهمهم أن دخولهم في دين الإسلام يقطع أرزاقهم أو ينقص ما عندهم أو ينحيهم عن مناصبهم الاجتماعية، وخضوع الناس لهم وتبعيتهم لهم، أو يؤثر من هو دونهم شأنًا في المجتمع عليهم، فيقدمه عليهم أو يغمطهم مقامهم، ولذا أقر كل ذي شرف من منصب أو غنى على شرفه فلم ينقص شيئًا، بل زادهم الإسلام عزًّا ورفعةًّ دنيا وأخرى.
ولهذا تواطأت الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة على أن رسل الله عليهم الصلاة والسلام لا يسألون الناس على دعوتهم أجرًا ولا مالًا ولا غيره، وإنما يريدون لهم الخير وصلاح الشأن وحسن العقبى في الدنيا والآخرة.
وما طلب منهم إنفاقه على وجه التعبد لله تعالى من زكاة مفروضة أو صدقة تطوع أو جهاد بالمال أو طلب للبر فهو لأنفسهم وَوُعِدُوا بالخلف عليه، وعُدَّ ذلك قرضًا لتأكيد رده ومثوبته[1].
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب المال من الناس إلا أن يكون زكاة واجبة في أموالهم الظاهرة التي كلفه الله بأخذها ممن وجبت عليه، وصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى بنفسه، أو أن يعرض عليهم حاجة ظاهرة لعامة المسلمين، كبئر رومة، وتجهيز جيش العسرة، والتصدق على شخص أو جماعة تحقَّقَ فقرهم وظهرت حاجتهم، كوفد مضر، بحيث يكون قرار الإنفاق نابعًا عن اختيار وقناعة من ذوى الغنى و اليسار، وإلا فقد طلب صلى الله عليه وسلم من بني النجار مثامنة حائطهم ليشتريه موضعًا لمسجده عليه الصلاة والسلام، وكان يستسلف من الأغنياء البعير بالبعيرين من الصدقة للجهاد حتى لا يثقل على الناس.
فكل هذه الأمثلة وغيرها كثير تدل وتؤكد على أنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يتعفف عن دنيا الناس، وأن لا يثقل عليهم بالإلحاح في الصدقات والتبرعات، وإذا اقتضت الحال شيئا من ذلك فليكن ظاهرًا بيِّنًا هم يرونه ويختارونه ويتولونه حتى لا يمل الناس ولا يثقل عليهم ويحملهم على الشح، فإن النفوس مجبولة على الشح، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴿ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:٩]، وحتى لا يفتح على نفسه شبهة أو باب تهمة أنه يطلب من الناس أموالهم لينتفع بها من ورائهم، ورحم الله امرأً اتقى الشبهات، وكف الغيبة عن نفسه وعرضه، وحبب الخير إلى الناس وجعلهم يتبصرون فيه، ولم يجعل نفسه وكيلًا عليهم، وحمد الله على العافية.. وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من العافية، فإن بدا الأمر راجحَ النفعِ للناس فليكن دوره دور المشير الناصح لا الطالب القابض المتوكل عنهم.