الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم
أشرف الخلق، وإمام المرسلين؛ أما بعد:
فلا يكاد يمرُّ يومٌ حتى نسمع ونشاهد مآسيَ مُحزِنة، وأخبارًا مُفجِعة، طالت الصغير
والكبير، والعالم والجاهل، والرجال والنساء، وجعلت الحليمَ منَّا حيرانَ، لا يدري ماذا حدث
ولمَ يحدث كل هذا في عالمنا المتحضر ماديًّا، الساقط أخلاقيًّا وروحيًّا.
وقد يُفسِّر لنا هذا الأمر ما جاء عنه النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير مما يكون في آخر
الزمان من فتن، وما يجب على المسلم فعله؛ لينجوَ بدينه ونفسه منها.
ففي آخر الزمان - ونحن في آخره – يكون المتمسكون بالإسلام العاملون به قليلين غرباء
بين الناس؛ فعن عبدالرحمن بن شيبة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
((بدأ الإسلام غريبًا، ثم يعود غريبًا كما بدأ، فطُوبَى للغرباء، قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟
قال: الذين يُصلحون إذا فسد الناس...))؛ [رواه أحمد].
((طوبى للغرباء)) جملةٌ تُحمَل على الخبر، فيكون المعنى: أنهم قد طابوا، وأن الله
اختار لهم طوبى، وهو إمَّا مقام في الجنة، أو منزلة عظيمة عند الله.
أو تُحمَل على أنها دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعاؤه مستجاب، فقد دعا لهم بأن
يطيب ما هم فيه من أمور الدنيا، وأن ينالوا تلك المنزلة العالية في الجنة يوم القيامة.
وفي آخر الزمان - ونحن في آخره - تنقلب الموازين، وتتبدل الحقائق في أعين الناس
فعن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((يأتي على الناس زمانٌ يُكذَّب فيه الصادق، ويُصدَّق فيه الكاذب، ويُخوَّن فيه الأمين
ويُؤتمن فيه الخَؤون، ويشهد فيه المرء وإن لم يُستشهَد، ويحلف المرء وإن لم يُستحلَف، ويكون
أسعد الناس بالدنيا لُكَعُ بنُ لُكَعَ([1])، لا يؤمن بالله ورسوله))؛ [رواه الطبراني].
في آخر الزمان - ونحن لا شك في آخره - فتنٌ قوية شديدة مظلمة، يضيع فيها الدين والخلق
والمبادئ والإنسانية؛ بسبب حب الدنيا والصراع عليها، إلا من رحم الله؛ فعن أبي هريرة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المظلم...))؛ [رواه أحمد].
فشبَّه الفتن بالليل المظلم في انتشارها وشمولها؛ حيث يتعرض لها كل الناس، ولا ينجو
منها إلا من عصمه الله، وذلك من كثرة الشهوات والمًغرِيات وسهولة الوصول إليها، وكثرة الداعين
لها، وكثرة أعداء الإسلام والمتربصين به، وشدة مكرهم وكيدهم للإسلام والمسلمين
مما يجعل الثبات في هذه الأيام على ترك هذه الفتن والابتعاد عنها - ثوابُهُ أعظم مما يتخيله
الإنسان، فإذا ثبت الشاب والفتاة والمسلم والمسلمة، وقبض على دينه بقوة - كان له أجر عظيم
مثل أجر خمسين رجلًا من الصحابة؛ كما جاء عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن من ورائكم أيامًا الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر
للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم))، وزاد في رواية: ((قيل: يا رسول الله، أجر
خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم))؛ [قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب
وصححه أيضًا الحاكم، ووافقه الذهبي].
فالمخرج من هذه الفتن الصبرُ على دين الله تعالى، وحسن التوكل عليه
مهما صعُبَ الأمر واشتد الخطر.
قال جل وعلا: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [آل عمران: 120]، إن صبرنا على
التمسك بالقرآن والسنة، وأكْثَرنا من النظر فيهما والاحتكام إليهما في كل شؤوننا، لا يضرنا كيد
الكائدين، ولا ظلم الظالمين، ولا عدوان المعتدين، وأهم شيء ألَّا نُضَرَّ في ديننا واعتقادنا، وإسلامنا
وثوابتنا، والتزامنا شرعَ ربنا سبحانه وتعالى، وهديَ رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويُعين على الصبر الصحبة الصالحة؛ فإذا ارتبط المسلم بقوم صالحين على شاكلته
أخلاقهم كأخلاقه واهتماماتهم كاهتماماته، وغايتهم كغايته - شعر معهم بالأنس
وزال عنه بعض ما يعاني من الأسى والحزن والكَرْبِ.