إن المنطلقَ الذي يرسم للإنسان حقيقةَ الحياة هو قيامُها على مبدأ رئيس،
ومنهج قويم، يؤمنُ به صاحبُه
وفي ظلِّ غيابه (المبدأ) تغيب الحياةُ طبعًا، ولا نقصد ها هنا غيابَ الحياة بمعنى الموت،
بل أقصد حقيقةَ الحياة من وجْهةٍ أخرى
أي: ما يؤصِّل للفرد إنسانيَّتَه، وفعاليته، ومنطقه العمليَّ داخل المجتمع الذي يعيش فيه،
وسيأتي ذكر هذا في هذه الورقة.
وإن كان المبدأ مبادئَ مُتعدِّدة، فإننا نَقْصُر الأمر على المبدأ بصيغة العموم، الذي يشمل
كلَّ ما يخصُّ الفردَ في حياته وسأحاول
الانطلاق من المعالم التي أقرَّها الأستاذ محمود شاكر لَمَّا تحدَّث عن حقيقة الحياة، وذلك
بإيراد نصٍّ لطيفٍ له في هذا الباب.
وهذا الموضوع الذي سنتحدَّث فيه موضوعٌ لم يُمْلِه التَّرفُ الفكريُّ، أو جاء عبثًا هكذا
أو جالتْ في نفسي كلماتٌ أريد التعبيرَ عنها فقط، أو أملَتْ عليَّ الذاكرةُ خواطرَ أسعى
لتسجيلها بقلمي
أو ما يماثل هذا القول ويشابهُه، بل كان هذا مُطابقًا للظروف والملابسات، ولما نعيشُه في
واقعنا اليوم
فالموضوع يُحاكي صورةً موجودةً بيننا، وما نخوض من اضطرابٍ مبدئيٍّ غير قار، لستُ
أدري السببَ المتحكِّمَ فيه
ولكن غايتي بيانُ أن حقيقة الحياة تقوم على المبدأ والإيمان به، وسيكون التساؤل الذي
سنُحاول الإجابة عنه، هو: ما أهمية المبدأ في الحياة؟.
إن المبدأ هو ذلكم الوجه الجماليُّ المعبِّر عن حقيقة الإنسان وفضائله، إنه ميزةٌ حَسَنةٌ فينا
كبَشَرٍ ما دمنا في عالم الوجود
وفي عدمه ينعدِم صاحِبُه، وبعبارة أخرى: إن المبدأ إذا قام على خصوصيات إنسانية جليلة،
وقيمٍ سَمْحَة
فإنه يُعبِّر عن صورة الشخص الذي يحمله من حيث طبيعتُه وأعماله وأفكاره وأهدافه؛ فهو
الأسُّ في هذه الحياة بشتَّى مناحيها
وإنه الوجه الذي يحفظ كرامتنا، ولْتَقُم حياتنا على مبدأ؛ كي نحفظ وجْه كرامتنا، والكرامة
في هذا المساق معناها إنسانيةُ الإنسان.
وإذا قال "مالك بن نبي" في كتابه مشكلة الثقافة:"إن تنظيم المجتمع وحياته وحركته،
بل وفوضاه، وخموده وركوده
كلُّ هذه الأمور ذاتُ عَلاقةٍ وظيفيةٍ بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع"، فنقول:
إن ما يؤصِّل طبيعة هذه الأفكار
في المجتمع هو نوعية المبدأ الذي يقوم عليه أفرادُه، باعتباره يُحدِّد أسلوب الحياة وسلوك ا
لفرد، وهذا بتعبيره.
وقد جعل رحمه الله المبدأَ الأخلاقيَّ واحدًا من الركائز التي تقوم عليها الثقافةُ الإنسانيةُ،
بالإضافة إلى الذوق الجماليِّ
والمنطِق العمليِّ (الفعالية)، والصناعة أو الجانب الفنيِّ، ومن هذه المؤسسات خصَّ لنا ا
لمبدأ الأخلاقيَّ على أنه أقومُ ركيزةٍ
من هذه الأمور التي ذُكِرتْ، والأليقُ لبناء ثقافةٍ معينةٍ، وخَلْق مجتمعٍ أفضلَ سمته المسؤولية
والفعالية
بحيث يسعى الرجل إلى العودة بالإنسان العربيِّ إلى درجة السلم الإنساني.
وما نُريد تأكيدَه من كلامه هو أهمية المبدأ في حياة الفرد خاصةً، وفي المجتمع عامةً؛ إذ به
تتحقَّق الحياة
ويُحفَظ ماء الوجه وصفاؤه، وتتأكَّد إنسانية الإنسان وقيمه السَّمْحة، وباعتبار أن مشكلة
المبدأ مشكلةٌ عميقة
في جوهرها باعتبارها تنتمي إلى مشكلتين: أولهما التي تندرج ضمن المجتمع الإنساني (نحن)،
وثانيهما مرتبطة بالذات
وحدها داخل المجتمع (الأنا)، بمعنى مبدأ المجتمع ومبدأ الفرد، وهذا الأخير هو الذي يهمُّنا،
لأنه إذا تحقَّق تحقق
المبدأ الأول، وعليه نقول: إن مبادئ المجتمع قائمةٌ على مبادئ الأفراد، وهنا تكمن أهمية
المبدأ.
وللتأكيد على أهمية المبدأ، وعلى كونه القلبَ الذي تنبض به الحياة، والدمَ الذي يسري
في شرايين جسم هذه الحياة
وبعبارة أخرى على أنه الشيء الذي يُغذِّي الفرد، ويرسم له طريق حقيقة الصفوة الإنسانية،
بل ويدلُّ على سموِّ قَدْر صاحبه
إذ يرفعه إذا وُجد، ويحطُّ منه إذا انعدم، ونورد في ذلك نصًّا للأستاذ محمود شاكر إذ يُفصِح
فيقول:
"وعقيدتي أن حقيقة الحياة هي المبدأ والإيمان به، وبغيرهما ينقلب الإنسان آلةً عاملةً لا يعرف
الإيجاد والإبداع
والمقاومة، والنزوع العقلي والروحي إلى المعاني السامية والفضائل العلوية، وكذلك يفقد الإنسان
الحياة
وكذلك يضيع التراث الإنساني الذي جاهدتْ أجيالُ البشر الغابرة في سبيله بما وُهِبتْ من قوة،
وأُعِينَتْ به من وسيلة
إن صحة المبدأ وحدها كفيلةٌ بإحداث أعظم الآثار في تاريخ العقل الإنسانيِّ، وأما الإيمان بهذا
المبدأ
فهو إعطاء العقل قوة التدبير ليُخرج حقائقه وأمانيه إخراجًا عمليًّا في الحياة".
ويظهر لنا أن أول النصِّ شافٍ، وآخره كافٍ؛ ليؤكِّد لنا أن الحياة تنعدِمُ بانعِدام المبدأ،
وكلام محمود شاكر واضحٌ وجليٌّ
في هذه المسألة؛ إذ يسفر - وفي معتقده - أن حقيقة الحياة عنده تقوم على المبدأ والإيمان به،
وفي تنافيهما
تنتفي الحياة، وتنمحي الروح الإنسانية وقيمها السامية، ولن أقول أكثر من هذا باعتبار أن
النصَّ جامعٌ لكل المسائل
التي مرَّت معنا في هذه الكلمات، وموضِّحٌ لها، ولله درُّ صاحب هذا الكلام المنظوم لفظًا،
والمؤثِّر دلالةً، إنه يصوِّر لنا حقيقة الحياة.
إن ما ذكرناه عن المبدأ أمرٌ قليلٌ، ولكن أظنُّ أن ما قيل أدلُّ على المقصود في هذا المقام،
ووصل إلى حدِّ الفهم والإفهام
وإننا لنقول - تصريفًا في قول الرافعي لَمَّا قال: "ولا سموَّ للنفس إلا بنوعٍ من الحب" -:
و"لا سموَّ لإنسانية الإنسان إلا بنوعٍ من المبدأ".
والمبدأ يجب أن يكون قائمًا صحيحًا، ومعايير صحَّته معلومةٌ عند الناس،وأتذكَّر قول الأستاذ
محمد الفرجي لَمَّا
جعل الحياة ثلاثة أشياء قائلًا: إن الحياة "مبادئُ متقرِّرةٌ، وأهدافٌ متغيِّرةٌ، ووسائلُ متطوِّرةٌ"،
فهذه مقولةٌ تُؤصِّل لأهمية المبدأ في الحياة وضرورته
في كونه التساؤل الذي نَحَتْهُ هذه العبارات والجمل لكي تجيب عنه، وأظنُّ ظنًّا أشبَهَ باليقين
أن ما قلناه يوضِّح ذلك ويؤكِّده.
وعليه نقول: وما حقيقة الحياة إلا في قيامها على مبدأ قويمٍ وصحيحٍ،وإذا كان الحبُّ "لا يصلح
بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر:
يا أنا"، فإن الحياة عامةً، وحياةَ الشخص خاصةً - لا تصلح إلا إذا امتزجَتْ بمبدأ قارٍّ وسليم
يؤمن به صاحبُه حتى تتحقَّقَ الفضائلُ السامية
والقيم النبيلة، وتسموَ النفسُ ويعلو قدرُها، وإذا حصل هذا في الأفراد، سنستطيع أوانئذٍ الارتقاء
بالمجتمع إلى سلم الإنسانية.
وفي الأخير نقول ما قاله محمود شاكر ونختم: "فكَّرتُ في المبدأ الذي يجب عليَّ أنْ أحدِّده لنفسي
تحديدَ الذي يُريد أن يشرع في عمل ينتظم
وفي الغرض الذي يجب أن أسدِّد إليه كلَّ سَهْمٍ من سهامي في هذا العمل".
ففكِّروا في المبدأ الذي ستقوم عليه حياتُكم، فقيام الحياة على مبدأ صحيح أمرٌ يؤكِّد حقيقتَها،
وحقيقةَ حامِلِه فهو تعبيرٌ عن الذات
في أخلاقها، وأعمالها، وأفكارها، ومساعيها، وما علينا إلا " أن نقولَ وأنْ نعملَ، وأن نؤمِنَ بما
نقول وما نعمل من سرِّ أنفسنا.. من قلوبنا..
من مبادئنا.. من أحشائنا.. من دمائنا"؛ فالحياة قوامُها المبدأ، وضجر الإنسان واضطرابه ناتجٌ
عن غيابه وانعدامه.