وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه ، ويصفها القرآن بما لا مزيد عليه :
«وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ. وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ».
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن ، وحمى وسم .. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح ، والشتم البذي ء ، والافتراء الذميم : «وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» ..
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة. فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين ، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم! يعقب عليه بالقول الفصل الذي ينهي كل قول :
«وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ».
والذكر لا يقوله مجنون ، ولا يحمله مجنون ..
وصدق اللّه وكذب المفترون ..
ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة «لِلْعالَمِينَ» .. هنا والدعوة في مكة تقابل بذلك الجحود ، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة ، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون .. وهي في هذا الوقت المبكر ، وفي هذا الضيق المستحكم ، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة - كما يدعي المفترون اليوم - إنما كانت صفة مبكرة في أيام مكة الأولى. لأنها حقيقة ثابتة في صلب هذه الدعوة منذ نشأتها.
كذلك أرادها اللّه. وكذلك اتجهت منذ أيامها الأولى. وكذلك تتجه إلى آخر الزمان. واللّه الذي أرادها كما أرادها هو صاحبها وراعيها. وهو المدافع عنها وحاميها. وهو الذي يتولى المعركة مع المكذبين. وليس على أصحابها إلا الصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين ..