المناسبة:
لما بيَّن في الآيات السابقة أن الكائناتِ له، وأنه عالمُ الغيبِ، أَنْكَرَ هنا أن يكون غيره يعلم الغيب، ثم عدَّدَ نعمَه ونقمَه ترغيبًا وترهيبًا.
سبب النزول:
قال مجاهد وغيره: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَرُبَ من الإسلام، ثم عاتبه رجل من المشركين، فقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دين آبائك، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة على أن تعطيني كذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هَمَّ به من الإسلام، وضل ضلالًا بعيدًا ثم قطع باقي العطاء فنزلت.
القراءة:
قرأ الجمهور (وفَّى) بتشديد الفاء، وقرئ بتخفيفها، وقرأ الجمهور: (وأن إلى ربك المنتهى) بفتح همزة أن، وكذلك ما بعدها من المواضع، وقرئ بالكسر فيهنَّ، وقرأ الجمهور (وثمود) بغير تنوين، وقرئ بالتنوين.
المفردات:
(تولى) أي: أعرض عن الإسلام، (أكدى) أَصْلُهُ من الكدية، يقال لمن حفر بئرًا ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتم، ولمن طلب شيئًا فلم يبلغ آخره، قال الحطيئة:
ويقال: كديت أصابعه إذا كَلَّت مِن الحفر، وكذا البيت قَلَّ ريعه، وأكدى الرجل قَلَّ خيره، (وفَّى) أتم ما أمر به نحو: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124]، (تَزِر) تحمل، (وازرة) نفس آثمة، (وزر) إثم، (سعى) عمل وقدم، (يرى)؛ أي: يبصر في الآخرة عند العرض، (الأوفى) الأكمل، (المنتهى) المرجع والمصير بعد الموت، (أضحك) أفرح حتى انطلقت الأسارير، (أبكى) أحزن حتى سالت العيون، (تمنى) تدفق في الرحم، (النشأة) الإحياء بعد الموت، (أغنى) دفع الحاجة وأكسب المال، (أقنى) أعطى مالًا يبقى ويدوم عند صاحبه صالحًا للادخار، (الشِّعرى) هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، ويقال له: مرزم الجوزاء، وكانوا يعبدونه في الجاهلية، (عادًا) قوم هود، (الأولى)؛ أي: القدماء أو المتقدمون الأشراف، أو أن هناك عادًا الأخرى من ولد عاد الأولى، وقيل: الأخرى ثمود، (ثمود) قوم صالح عليه السلام، (فما أبقى) فما ترك فيهم من باقية، (من قبل)؛ أي: قبل عاد وثمود، (أظلم) أكثر تجاوزًا للحد في الإيذاء، (وأطغى) أشد عتوًّا، (والمؤتفكة) هي مدائن قوم لوط من دائرة الأردن؛ وقد سميت مؤتفكة لأنها انقلبت، ومنه الإفك لأنه قلب الحق كذبًا، (أهوى) أسقط بعد أن رفعها إلى السماء، وجعل عاليها سافلها، (فغشاها) فألبسها وكساها وجعل فوقها من الحجارة ما الله وحده به عليم، (آلاء) نِعَم، (تتمارى) تتشكك أو تجحد.
التراكيب:
قوله: (أفرأيت الذي تَوَلَّى) الهمزة للاستفهام التعجُّبي، والفاء للعطف على محذوف يقتضيه السياق، ورأى بصرية مفعولها الموصول، وقيل: عملية، ومفعولها الثاني جملة: (أعنده علم الغيب)، فهي داخلة في حيز الاستفهام، المقصود منه الإنكار، ويرى علمية أي فهو يعلم أن غيره يتحمل عذاب الآخرة، وقوله: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى) (أم) فيه منقطعة بمعنى (بل) والهمزة، وتقديم موسى في الذكر لأن صُحُفَهُ عندهم أشهر وأكثر، وقوله: (ألا تزر وازرة وزر أخرى) أن هي المخففة من الثقيلة، وهي في محل جر بدل من (ما) في قوله: (بما في صحف موسى)، أو في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، كأن قائلًا قال: ما في صحفهما؟ فقيل: ألا تزر وازرة وزر أخرى، وقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) أن فيه مخففة من الثقيلة أيضًا، واسمها ضمير الشأن محذوف، ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل؛ لأنه لا يتصرف، ومحلها الجر أو الرفع عطفًا على (أن) قبلها، وقوله: (وأن سعيه سوف يرى) معطوف على ما قبله، فهو في محل جر أو رفع كذلك، وقوله: (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) الضمير المرفوع في (يجزاه) عائد على الإنسان، والمنصوب عائد على سعيه، والجزاء مصدر مبين للنوع، وقد تعدى يجزي إلى المفعول بنفسه هنا، وقوله: (وأن إلى ربك المنتهى) بفتح (أن) عطفًا على ما قبله، وكذلك المواضع السبعة الباقية، وعلى هذا فيكون مضمون هذه الجمل موجودًا في الصحف المذكورة.
وأما على قراءة كسر الهمزة في هذه المواضع الثمانية فعلى الاستئناف، ولا يكون مضمون هذه الجمل موجودًا في الصحف المذكورة، فيكون ما في الصحف قد تم بيانه وانتهى عند قوله: (الجزاء الأوفى).
وقوله: (وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) المفعول في هذه الأفعال محذوف؛ لقصد العموم، وقد أتى بضمير الفصل لدفع ما يتوهم من أنها بفعل الإنسان، وكذلك الحال في قوله: (وأنه هو أغنى وأقنى)، وأما قوله: (وأنه خلق الزوجين) فإنه لم يؤكد بالفصل؛ لأنه لا يتوهم إنسان أنها بفعل أحد من الناس، وهكذا الحال في الإنشاء الآخر وإهلاك عاد، والتعبير بـ(عليه) في قوله: (وأن عليه النشأة الأخرى) للإشعار بوجودها لا محالة، كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وقوله: (وأنه هو رب الشعرى) جِيء فيه بضمير الفصل؛ لأن الشعرى لما عبدت من دون الله تعالى نَصَّ على أنه تعالى هو ربُّها ومُوجِدُها، وقوله: (وثمود فما أبقى) ثمود معطوف على (عادًا)، وهو بالصرف اسم لأبي القبيلة، والضمير في قوله: (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) لقوم نوح، وأنهم أطغى من عاد وثمود، ويجوز أن يكون الضمير لمن تقدم من الأمم الثلاثة جميعًا؛ أي: كانوا أطغى من قريش، ويكون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (هم) يجوز أن يكون توكيدًا للضمير المنصوب الواقع اسمًا لإن، ويجوز أن يكون فصلًا؛ لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وإنما حذف المفضول بعد الواقع خبر لكان؛ لأنه جارٍ مجرى خبر المبتدأ، وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان.
وقوله: (والمؤتفكة أهوى) يجوز أن تكون (المؤتفكة) منصوبة بـ(أهوى)، ويجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله، و(أهوى) جملة في محل نصب على الحال؛ لتوضيح كيفية إهلاكهم؛ أي: وأهلك المؤتفكة مهويًّا بها، وقوله: (فغشاها ما غشى) يجوز أن يكون الفاعل ضميرًا يعود على الله عز وجل، وقوله: (ما غشى) مفعول به، ويجوز أن يكون الموصول هو الفاعل، والإيهام للتهويل، وقوله: (فبأي آلاء ربك تتمارى) الباء للظرفية والخطاب للسامع، والاستفهام للإنكار، وقد سبق ذكر نعم ونقم، وقد جعلها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ وهو نعمة لأصحاب العقول.
المعنى الإجمالي:
أَمَدَدْتَ عينَكَ فأبصرْتَ الذي أعرضَ عن الإسلام، وأعطَى شيئًا قليلًا لمَنْ تعهَّدَ بتحمُّلِ العذابِ عنه، وقَلَّ خيرُه، نُنكرُ أن يكون لديه علمُ الغيب، وأنه يعلمُ أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، بل ألم يخبر بالخبر الذي في أسفار موسى من التوراة، وأسفار إبراهيم الذي أتم ما أُمِرَ به، أنه لا تَحْمِلُ نفسٌ مُذْنِبَةٌ ذنبَ نفسٍ مذنبةٍ أُخْرى، وأن الحالَ والشأنَ ليس لأحدٍ من الخلق ثوابٌ ولا عقابٌ إلا على عملِه، وأن ما يعمله الإنسان سوف يبصرُه مَعروضًا عليه في الآخرة، ثم يُثاب عليه الثواب الأتم، وأن إلى ربكِ المصيرَ والمرجعَ، وأنه سبحانه لا غيره أفرحَ من شاءَ حتى انطلقت أساريرُه، وأحزنَ من شاءَ حتى سالت عيونُه، وأنه سبحانه لا غيره سلبَ الحياة ممن شاء، ومنحَها من شاء، وأنه أوجد الصنفين الذكور والإناث من سائر الحيوانات من مَنِيٍّ عند تدفقه في الرحم، وأن الإحياء الآخر بعد الموت حتمٌ لا بد من وجوده، وأنه أكسبَ المالَ وأرضَى وأعطى مالًا يبقى ويدوم عند صاحبه.
وأنه سبحانه لا غيره مالكٌ مرزمَ الجوزاء الذي عبدَه الجاهلون، وأنه دمَّر قوم هود وقوم صالح لما كذبوا الرسل، فما تركَ منهم باقيةً، وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إن قوم نوح كانوا أشد تجاوزًا للحد في إيذاء الرسل، وأعتى من قوم هود وقوم صالح، والمدائن المنقلبة من دائرة الأردن أسقطها بعد أن رفعت إلى السماء على طرف ريشة من جناح جبريل، فجعل عاليَها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، ففي أيِّ أنعُم الله المتعددة تَتَشَكَّك؟
ما ترشد إليه الآيات:
1- سوءُ حالِ من نزلت فيه الآيات.
2- أن الغيبَ لله.
3- أن صحفَ موسى وإبراهيم المشتهرةَ تنصُّ على أنه لا يتحمل أحدٌ وِزْرَ أحد.
4- لا ينالُ الإنسانُ غيرَ عمله.
5- سيُعرضُ على الإنسانِ عملُه، فيُجازى عليه.
6- تشريفُ المحسن وتوبيخُ المسيء.
7- إثباتُ القضاءِ والقدر.
8- لا بد مِن البعثِ حتمًا.
9- تدميرُ المكذبين.