حتى كبار الكتاب أحياناً لا يفرّقون بين الكتابة الجميلة والكتابة الصّادقة، بين الحرف الدّافئ الذي يشق طريقه إلى القلب وبين الحرف الرشيق الذي يكتفي بإدهاش قارئه لحظة القراءة.
ثمة اختلافات جمّة يصعب اختصارها، بين مؤلّف يريد إثارة إعجاب قارئه، وكاتب آخر يريد أن يصنع من قارئه شخصاً قوياً ويداوي نقاط ضعفه.
هناك بالطبع اختلاف آخر مهم، ذاك الذي يعانق قارئه، يخجل من صياغة ركيكة للغته، يخجل من بعثرة الكلام يميناً وشمالاً دون اتزان، يشعر بالنقصان إن تلاعب بقواعد اللغة، وصَفَقَ بها وجه قارئه بقلّة احترام.
يُخرج الكاتب ذخائر نفسه النّفيسة، ويعيد ترتيبها بشكل مختلف، يستحيل بعدها أن لا يخترق بوْحه جدران القلوب المتعبة، ذلك هو سر نجاحه، إنه ليس شاعر منابر، ولا يشبه أبداً ذاك النوع من الكتاب الذين يكتشفون أن عباءة الأدب ترفعهم درجات فوق الناس، فيتقمصون الدور باستعلاء، مستغلين بريق العباءة لإيهام جمهورهم بأهمية ما يكتبون.
في البرنامج الفرنسي الشهير "المكتبة الكبيرة" سأل فرانسوا بيسنال كل كاتب من ضيوفه عن الكِتاب الذي غيّر حياته، وكانت الأجوبة مدهشة، كتاب تجاوزوا الستين في الغالب، يتحدثون بطلاقة عن تجاربهم كقرّاء، دون أي خجل أو شعور بقلّة مكانتهم وهم يعترفون بتفوق كتاب آخرين عليهم، كاشفين عن أسماء أغلبها يعيش في الظلال، إذ ليس بالضرورة أن يكون الكتاب المؤثر فينا لكاتب مشهور، أو ذي شعبية مثل نجوم السينما، هناك سر في ذلك الكتاب الذي لا نمل من قراءته، فنتمنى لو لم ينته، ونحزن إن وضعناه جانباً قبل أن نشبع منه.
في نفس البرنامج يخبرنا الكاتب الأميركي جيم فرغوس عن الجحيم الذي كان يعيش فيه بسبب خلافات والديه وشجاراتهما التي لا تنتهي، إلى أن عثر على كتاب نداء البرية لجاك لندن، فبدأ بقراءته منيراً مصباحه اليدوي الصغير تحت غطاء فراشه، يقول: "ذلك الكتاب أنقذ حياتي" وهو لم يصنع من جيم كاتباً فقط، بل رجلاً قوياً أدرك أسرار قوة مخيلته. وإن تساءلنا ماذا وجد فرغوس في كتاب بطله "كلب" فإننا حتماً سنفهم أنه ليست قصص الحب التي تغري الغالبية الساحقة هي التي تغيّر حياتنا، نعم بإمكان قصة حب غبية أن تصنع كاتباً مشهوراً، لكنها أبداً لا تصنع كاتباً جيداً، ولا قارئاً جيداً!
قصّة الكلب "باك" التي ابتكرها لندن منذ أكثر من قرن، لا بد من أن تكون درساً للنهوض بكل نفس منكسرة إلى يومنا هذا، ولكنّها لا يمكن أن تؤثر في قارئ يبحث عن مخدّر مؤقت لأوجاعه، وهذا هو الفرق بين كتابة جميلة وأخرى صادقة.